قلب شجاع - Brave Heart  قلب شجاع - Brave Heart
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كيف يكون الكفر دينا

كيف يكون الكفر دينا
قصة من قصص المثنوي عن مولانا جلال الدين الرومي -
تذكر القصة أن نبي الله موسى عليه السلام شاهد راعيا في الطريق وهو يتضرع إلى الله  قائلا: (إلهي، يا من تصطفي من تشاء، أين أنت حتى أصبح خادما لك، فأصلح نعليك وأمشط رأسك وأغسل ثيابك وأقتل ما بها من القمل وأحمل الحليب إليك ... أيها العظيم، وأقبل يدك اللطيفة وأمسح قدمك الرقيق وأنظّف مخدعك حين يجيء وقت المنام، يا من فداؤك كل أغنامي ويا من لذكرك حنيني وهيامي).

لقد قدم الراعي هنا من كل قلبه أفضل ما يمتلكه، حيث إن الماعز كل مقتنياته، فيما كلماته البسيطة ناقلة لمشاعره النقية والقوية، وذلك على الرغم من أن كثيرا من كلماته قد تبدو حمقاء ويخالف بها كل الأنماط العقائدية المسموح بها عند مخاطبة (الله تعالى)، حيث أنه نحى جانبا كل صفات القداسة الإلهية المفروضة دينيا، ولم يراع كل الترتيبات الكهنوتية المستقرة حول صورة الله العظيم.

هنا علّق النبي موسى عليه السلام على الراعي باعتباره حاميا كبيرا للشريعة ومفوضا لتفسير الدين ومدافعا عن الإيمان: يا أيها الرجل، من تخاطب بهذه الكلمات الحمقاء ؟

أجاب الراعي: مع ذلك الشخص الذي خلقنا، مع من ظهرت بقدرته هذه الأرض وتلك السموات.

فقال له النبي موسى: حذاري، إنك قد أوغلت في إدبارك، وما غدوت بقولك هذا مسلما بل صرت من الكافرين، ما هذا العبث وما هذا الكفر والهذيان ؟ ألا فلتحش فمك بقطعة من القطن، إن نتن كفرك قد جعل العالم كله منتنا، بل أن كفرك قد مزق ديباجة الدين، إن النعل والجورب يليقان بك، ولكن متى كان مثل هذين يليقان بالشمس ؟ فإن لم تغلق حلقك عن مثل هذا الكلام، فإن نارا سوف تندلع وتلتهم الخلق، وإن لم تكن النار قد اندلعت فما هذا الدخان ؟ ولماذا أصبحت نفسك مسودة وروحك مردودا ؟ وإن كنت تعلم أن الله هو الحاكم، فكيف اعتقدت بمثل هذا السفه والوقاحة ؟ إن صداقة الحمق هي عين العداوة، وما أغنى الحق تعالى عن مثل هذه العبادة، فمع من تتحدث ؟ أمع العم أم الخال ؟ وهل الجسم والحاجة من صفات ذي الجلال ؟ إن الحليب يشربه من يكون قابلا للنشأة والنماء، والنعل يلبسه من هو بحاجة إلى القدم. وحتى لو كان من القيل والقال موجها لعبد الله الذي قال عنه الحق: (إنه ذاتي وأنا ذاته) هذا العبد الذي هو مغزى حديث الحق: (مرضت فلم تعدني، لقد غدوت مريضا،وليس عبدي وحده هو الذي مرض).

وطبقا للقصة فقد أستمر النبي موسى عليه السلام في نقده القاسي وإدانته للراعي، شارحا له وموضحا له ما ارتكبه من خطايا، بأسلوب ديني بدا معقّدا بالنسبة لهذا الراعي البسيط، فمزق الراعي ثوبه وتأوه ثم انطلق مسرعا إلى الصحراء، ومضى قائلا بإحساس الصدمة وبتعبير من البساطة والبراءة: (لقد أغلقت فمي أيها الرجل، كما أحرقت روحي في سعيها إلى التوبة).

لكن بعد هذه المحادثة ظهر التجلي الإلهي للنبي موسى عليه السلام وجاءته هذه الكلمات: لقد أبعدت عني واحدا من عبادي، فهل أتيت لعقد أواصر الوصل أم أنك جئت لإيقاع الفراق ؟ فما استطعت لا تخط خطوة نحو إيقاع الفراق، فأبغض الحلال عندي هو الطلاق، لقد وضعت لكل إنسان سيرة ووهبت كل رجل مصطلحا للتعبير، يكون في إعتباره مدحا على حين أنه في إعتبارك ذم. ويكون في مذاقه شهدا وهو في مذاقك سم، إنني منزه عن كل طهر وتلوث وعن كل روح ثقلت في عبادتي أو خفت، والتكليف من جانبي لم يكن لربح أنشده، لكن ذلك كان لكي أنعم على عبادي، فأهل الهند لهم أسلوبهم في المديح ولأهل السند كذلك أسلوبهم. ولست أغدو طاهرا بتسبيحهم، بل هم المتطهرون بذلك، الناثرون الدر، ولسنا ننظر إلى اللسان والقال، بل نحن ننظر إلى الباطن والحال.

فنظرنا إنما هو لخشوع القلب، حتى لو جاء اللسان مجردا من الخشوع، فالقلب يكون هو الجوهر، أما الكلام فعرض. والعرض يأتي كالطفيلي أما الجوهر فهو المقصد والغرض، فإلى متى هذه الألفاظ وذلك الإضمار والمجاز ؟ إني أطلب لهيب الحب، فاحترق وتقرب بهذا الاحتراق، أشعل في روحك نارا من العشق ثم أحرق بها كل فكر وكل عبارة.

يا موسى ... إن العارفين بالآداب نوع من الناس، والذين تحترق نفوسهم وأرواحهم نوع آخر، إن للعشاق احتراقا في كل لحظة، وليس يفرض العشر والخراج على قرية خربة، فلو أنه أخطأ في القول فلا تسمه خاطئا، وإن كان مجللا بالدماء، فلا تغسل الشهداء، فالدم أولى بالشهداء من الماء، وخطأ المحب خير من مائة صواب، فليس في داخل الكعبة رسم للقبلة، وأي ضرر يحيق بالغواص إن لم يلبس النعل الواقي من الغوص في الثلوج، فلا تلتمس الهداية عند السكارى، وكيف تطلب من تهلهلت ثيابهم رفو تلك الثياب، إن ملّة العشق قد انفصلت عن كافة الأديان، فمذهب العشاق وملتهم هو الله، ولو لم يكن للياقوتة خاتم فلا ضير في ذلك، والعشق في خضم الأسى ليس مثيرا للأسى.

ولقد ألقى الله – بعد ذلك – أسرارا في أعماق قلب موسى، ليست مما يباح به، لقد تدفقت الكلمات إلى قلب موسى وامتزج الشهود بالكلام، فكم ذهل عن ذاته وكم عاد إلى الوعي وكم طار محلقا من الأزل إلى الأبد.

وطبقا لما يذكره مولانا جلال الدين، فإنه بعد هذا الحديث يضع الله في صميم قلب النبي موسى خوارق لا تعبر عنها الكلمات، وقد صبت الكلمات في قلبه، أما البصر والكلام فقد إختلطا سوية، ويستمر الرومي قائلا: (فلو أنني شرحت أكثر من هذا لكان من البلاهة، ذلك لأن شرح هذا يتجاوز علمنا، ولو أنني ذكرته لاقتلعت العقول، ولو أنني كتبته لأنشق كثير من الأقلام).

وتخبرنا القصة أنه عندما سمع موسى هذا العتاب من الحق، هرع وراء الراعي موغلا في البيداء، وانطلق مقتفيا آثار قدمي ذلك الحيران، فكان ينثر الغبار من أذيال الصحراء، وإن خطوة قدم الإنسان الموله لهي متميزة عن خطى الآخرين، فتارة يمضي مستقيما كالرخ من القمة نحو القرار، وتارة يمضي بخطى متقاطعة مثل الفيل، وتارة يمضي كالموج متطاولا رافعا علمه، وتارة يمضي زاحفا فوق بطنه كالسمكة، وتارة يخط وصف حاله فوق التراب، كالرمال الذي يضرب الرمال.

وفي النهاية أدرك موسى الراعي ورآه وقال البشير للراعي: إن الإذن قد جاء، فلا تلتمس آدابا ولا ترتيبا، وإنطق بكل ما يبتغيه قلبك الشجي، إن كفرك دين ودينك نور للروح، وإنك لآمن والعالم بك في أمان، أيها المعافى، إن الله يفعل ما يشاء، فاذهب وأطلق لسانك بدون محاباة.

فقال الراعي: يا موسى، إني قد تجاوزت ذلك، إنني الآن مجلل بدماء قلبي، لقد تجاوزت سدرة المنتهى وخطوت مائة ألف عام في ذلك الجانب، إنك قد أعملت سوطك فدار حصاني، فبلغ قبة السماء ثم تجاوز الآفاق، فعسى الله أن يجعل جوهرنا الإنساني نجي سر لاهوته، وليبارك الله لك يدك وساعدك، فالآن قد تجاوز حالي نطاق القول، فهذا الذي أقوله ليس حقيقة حالي.

آخر القول هو أنه يجب أن نقرأ هذه القصة ونتعلم فهم الدين من خلالها، ففي كل محاورة علينا أن نتدبر أحد أشعة الحقيقة لعرضها على الآخرين، وكذلك نتعلم إسهام ذلك الآخر في الحقيقة، وإلا أصبح الحوار بين البشر بلا فائدة.


عن الكاتب

HOSNI AL-KHATIB

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

قلب شجاع - Brave Heart