مفهوم الفكر العنصري الاختزالي.. معاملة اليهودي
الفكر العنصري عامة، فكر اختزالي ينحو نحو تجريد الضحية من خصائصها الإنسانية المركبة والمتعينة بوصفها كيانا إنسانيا له سلبياته وإيجابياته، وذلك حتى يتحول إلى شيء مجرد يجسد سمة أو جوهرا معينا، وقد يلجأ العنصري إلى اختلاق الحقائق والأكاذيب، ولكن هذا أمر نادر، إذ أن الفكر العنصري خصوصا في عصر العلم، يحاول أن يقدم قرائن وحججا على صدق مقولاته، بحيث يستخلصها من الواقع الإنساني المركب، وذلك من خلال عمليات فكرية وذهنية تنحو نحو التجريد والتبسيط والتسطيح والاختزال، وذلك مثل:
- التركيز على عنصر من الواقع دون غيره، كأن يركز العنصري على إحدى السلبيات لبعض أعضاء جماعات معينة وعزلهم عن إيجابياتهم.
- تعميم ما يرتكبه بعض أعضاء جماعة معينة من جرائم أو أخطاء على كل أعضاء الجماعة الآخرين، ثم التركيز بعد ذلك على هذه الشخصية بكل ما تتسم به من شرور وعنف مزعومين.
- فصل أعضاء الجماعات المستهدفة عن سياقهم الاجتماعي والحضاري الذي قد يفسر سلوكهم السلبي، وعدم الربط بين هذه الجماعة المعينة وغيرها من الجماعات البشرية التي قد تشترك معها في الصفات السلبية نفسها، وذلك بهدف خلع صفة الإطلاق عليها حتى تكتسب بعدا نهائيا، وتبدو كأنها مقصورة عليهم دون سواهم من البشر.
- إسقاط عناصر عدم التجانس بين أعضاء هذه الجماعات المختلفة وعناصر الاختلاف والصراع بين أعضائها، وإسقاط واقع انقسامهم إلى طبقات وجماعات مختلفة، فيصبح الكل فيهم كلا واحدا متجانسا.
هذا ولنضرب مثلا على هذه العمليات الفكرية الاختزالية الأربع، بحيث تظهر لنا التهمة التي عادة ما توجه إلى أعضاء الجماعات اليهودية، أي الاشتغال بالرقيق الأبيض كقوادين أو بغايا، وهذه حقيقة مادية وإحصائية، ففي الفترة من 1881 وحتى 1935 كان ثمة وجود يهودي ملحوظ في هذه التجارة المشينة، ولكن العمليات الفكرية العنصرية تركز على هذا العنصر السلبي وتعزله عن إيجابيات اليهود، حيث كانت أعداد كبيرة من اليهود تعمل في مهن شريفة، كما أن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ساهموا بكل قواهم في القضاء على هذه التجارة المشينة بين اليهود.
كما ومن ناحية أخرى يطلق أعداء اليهود هذه الصفة على كل اليهود أينما كانوا، وذلك مع أن نسبة اليهود المشتغلين بهذه التجارة قد تكون أعلى من نسبة المشتغلين بها بين الأغلبية، ولكنها على أية حال كانت نسبة مئوية ضئيلة بالنسبة لعدد أعضاء الجماعة اليهودية، إضافة إلى أن فصل اليهود عن سياقهم الاجتماعي والتاريخي، كان من أهم العمليات، وفي الواقع فإنه لا يوجد أي ذكر للجماعات البشرية الأخرى التي اشتغلت بتجارة الرقيق الأبيض في الفترة نفسها، ولا لواقع أن الجماعات اليهودية في أوروبا كانت تتمتع حتى منتصف القرن التاسع عشر بمعدلات عالية من التماسك الخلقي والاجتماعي يفوق المعدلات السائدة بين أعضاء الأغلبية، حتى أن ظاهرة الأطفال غير الشرعيين كانت غير معروفة تقريبا بينهم قبل عمليات التحديث والعلمنة التي حدث بعدها الإنحلال الخلقي.
هذا وهناك العملية الفكرية الكامنة وراء العمليات السابقة كافة، والتي كثيرا ما تنعكس في أساطير وصور إدراكية ثابتة تنسب إلى اليهود عامة خصائص سلبية ثابتة، كما أن وجود مثل هذه الأساطير والصور يبلور الأفكار العنصرية الكامنة ثم يساعدها على التحقق، ويمكن أن تكون هذه الأنماط الثابتة متناقضة، كأن يتبع فريق داخل المجتمع نمطا معينا ويتبع فريق آخر نمطا آخرا يناقض النمط الأول، وذلك مثل نمطي اليهودي الجبان الذي يخاف من أي شيء واليهودي العدواني الذي لا يخشى شيئا، وقد اتضحت هذه الظاهرة في العصر الحديث في الغرب، فاليهودي هو من كبار الممولين وهو أيضا المتسول، وهو رمز الجيتوية والتخلف الديني والانفتاح المخيف والعلمانية المتطرفة، وهو رمز الرجعية والثورة والإقطاعية والليبرالية، فإذا كان (كارل ماركس) يهوديا وكان (روتشيلد) يهوديا و(مائير كاهانا) يهوديا و(مارلين مونرو) يهودية، وكذلك (فرويد وأينشتاين ونعوم تشومسكي)، فلابد أن هناك ما يجمع بينهم، وحينما يفشل الدارس في العثور على هذا العنصر، فإنه يكمله من عنده ويفترض وجود مؤامرة خفية تجمع بينهم وأنهم ولا شك يحرصون على إخفائها.
ولكن هذا التناقض على كل، أمر لا يضايق العنصريين بتاتا، فالإنسان العنصري إنسان غير عقلاني (فهو مرجعية ذاته) لا يقبل الاحتكام إلى أية قيم أخلاقية تتجاوزه وتتجاوز الآخر، فهو يؤمن بشكل قاطع بأن تميزه أمر لصيق بكيانه وكامن فيه تماما مثل تدني الآخر، وبالتالي فإن العنصري يبحث دائما عن قرائن في الواقع ينقض عليها كالحيوان المفترس أو الطائر الجارح فيلتقطها ويعممها ليبرر حقده، بل ويمكن أن يوظف هذا التناقض ذاته بين الصور الإدراكية، بحيث يشير إلى مدى خطورة المؤامرة اليهودية العالمية الأخطبوطية التي تسيطر على سائر مجالات الحياة، وتسيطر على اليمين واليسار وعلى الشمال والجنوب والشرق والغرب.
كما ولابد أيضا من دراسة نوعية الفلسفة الاجتماعية (أو العامة) السائدة في المجتمع، فوجود فلسفة اجتماعية عنصرية في المجتمع يخلق تربة خصبة للتفجرات العنصرية، كما أن وجود فلسفات بعينها، كأن تكون الفلسفة العامة في المجتمع رؤية علمانية إمبريالية تتحدث عن التفوق والغزو وإرادة القوة، قد يساعد أيضا على إنبات بذور الفكر العنصري الكامن.
وهكذا يمكن القول بأن الفكر العنصري يعبر عن نفسه من خلال أي نسق فكري متاح في المجتمع، فعلى سبيل المثال فإنه من الثابت أن فلسفة (نيتشه) زودت العنصريين وأعداء اليهود بإطار فكري يتمتع بالاحترام والمصداقية، ولكن يمكن القول أيضا بأن العنصريين كانوا سيجدون تسويغا لفكرهم في أي مصدر وفي أي نسق فكري متاح، فلو لم يقدم (نيتشه) فلسفته لوجد العنصريون تبريرا لمواقفهم من خلال أنساق فلسفية أخرى يستولون عليها، ثم يقومون بتطويعها وتوظيفها لخدمة رؤيتهم وأهدافهم، وفي هذا شيء من الحق.
ولكن الأفكار العرقية المتبلورة التي تأخذ شكل أساطير مثيرة وصور إدراكية ثابتة تظل مع ذلك تلعب دورا مهما، كما أن أنساقا فلسفية مثل التفكير النيتشوي (الدارويني) الذي يسقط حرمة المطلقات كافة ومنها الإنسان، يمكن أن تطوع لخدمة الفكر العنصري أكثر من أنساق فكرية أخرى، ولعل المناخ الفكري العام الذي ساد أوروبا في القرن التاسع عشر، بحديثه عن التفوق الآري ورسالة الإنسان الأبيض والبقاء للأصلح، قد خلق إرتباطا إختياريا وتربة خصبة لنمو معاداة اليهود، ومن الثابت الآن أن أكثر الكتب شيوعا آنذاك في أوروبا كانت الكتب العنصرية.
كما أن محاولة تعريف الواقع بأسره (بما في ذلك الإنسان) على أساس مادي، ساعد على نمو النظريات التي تحاول تعريف الجماعات البشرية من منظور عرقي، ولكن النظريات المادية نظريات حتمية، فتطور المادة غير خاضع لعقل الإنسان أو اختياراته، وإذا عرف الإنسان على أساس عرقي فهذا يعني أنه يولد بصفاته ومن ثم فهو غير مسئول عنها، ومن هنا فإن شخصيته وهويته في جسده لا في وضعه الاجتماعي، ولذا يمكننا القول بأن النظريات البيولوجية التي تحاول تعريف الإنسان في كليته على أساس بيولوجي مادي تخلق قابلية داخل المجتمع للعنصرية والعداء لليهودية، إذ تصبح الصفات السلبية لليهودي شيئا حتميا لصيقا بجوهره، وتجب الإشارة إلى أن الإيمان بالحتمية المادية ليس مقصورا على النظريات البيولوجية، بل هو كامن في كثير من الأنساق المعرفية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، هذا وإن بعض المفكرين المسيحيين يذهبون إلى أن المصدر الأساسي بل والنهائي لمعاداة اليهود ليس المسيحية كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما العداء للمسيحية وللدين بشكل عام، إذ أن مثل هذا العداء يحول الآخر إلى شيء، وينكر عليه إنسانيته ولا يفتح أمامه أبواب الخلاص، كما أن الحركة النازية وهي الحركة التي بلورت معاداة اليهودية وأضفت عليها منهجية وشمولا، كانت تعادي الكنائس كلها وأرسلت بالعشرات من رجال الدين المسيحيين إلى أفران الغاز، وكانت تحرم على أعضاء فرق (الإس إس) الخاصة الإنضمام إلى أية كنائس مسيحية باستثناء الكنيسة القومية التي أسسها النازيون أنفسهم.
هذا وكما أشرنا من قبل إلى اتجاه العنصريين إلى تجريد اليهود واختزالهم عن طريق عزلهم عن سياقهم التاريخي وعن غيرهم من الجماعات البشرية، هنا نضيف أن الصهاينة يفعلون الشيء نفسه في دراستهم لما يلحق اليهود من اضطهاد، فهم يقومون بعزل ظاهرة اضطهاد اليهود عن الظواهر المماثلة أو المختلفة في المجتمع، وبهذه الطريقة يصبح هذا الاضطهاد شيئا فريدا غير مفهوم، ويصبح عداء الأغيار لليهود أمرا ثابتا وتعبيرا عن الطبيعة الشريرة للأغيار، ولذا فحينما يدرس الاضطهاد، فإنه لابد من وضعه في سياقه التاريخي حتى يمكننا أن نرى أثر هذا الاضطهاد على جماعات بشرية أخرى، ويمكن القول بأن اضطهاد اليهود في أوروبا (بعد القرن الثاني عشر) لم يكن موجها إليهم باعتبارهم يهودا وإنما باعتبارهم مرابين (جماعة وظيفية وسيطة)، كما أن المرابين من (الكوهارسين واللومبارد) الذين كانوا يحتلون المكان نفسه ويعملون الوظيفة نفسها كانوا يتعرضون أو لا يتعرضون للاضطهاد حسب مدى احتياج المجتمع إليهم أو عدم احتياجه.
كما أنه وبعد عصر الإعتاق والإنعتاق، قامت الدولة الفرنسية الجديدة بمحاولة دمج كل الأقليات التي كانت تتمتع بأية خصوصية لغوية أو دينية غير فرنسية، ولم تميز في ذلك بين اليهود والبريتون مثلا، وحينما قامت الإمبراطورية الروسية (القيصرية) بمحاولة فرض الصبغة الروسية على أعضاء الجماعة اليهودية، كانت تفعل ذلك باعتباره جزءا من سياسة إمبراطورية عليا كانت موجهة ضد كل الجماعات البشرية في الإمبراطورية وبخاصة غير السلافية (الإيروسنتي)، وقد تعرض المسلمون في الإمارات التركية السابقة لدرجة أعلى من الاضطهاد، فقد كانوا أقل تروسا، كما أن الانتماء الأسيوي للمسلمين الأتراك جعلهم أكثر ابتعادا عن الحضارة الروسية من اليهود الذين كانوا أكثر قربا منها، فرطانتهم اليديشية هي في نهاية الأمر رطانة ألمانية، كما أن نخبتهم الثقافية كانت جزءا من التشكيل الحضاري الغربي، وبالمثل كان الاضطهاد النازي إضطهادا علميا محايدا لا تمييز فيه ولا تحيز، وقد كان موجها ضد جميع العناصر (غير المفيدة) التي يصنفها المجتمع بإعتبارها كذلك مثل: العجزة والأطفال المعوقين الذين صنفوا بوصفهم، أفواه تأكل لا نفع لها، والغجر والسلاف واليهود، وهناك هولوكوست ضد البولنديين (على يد كل من السوفييت والنازيين) راحت ضحيته عدة ملايين.
هذا ويلاحظ أيضا أن الجماعة الوظيفية الوسيطة الصينية في الفلبين كانت تعامل معاملة الجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية في بولندا تماما، ويمكن القول بأن معاداة اليهود كظاهرة لن تختفي تماما من المجتمعات الغربية، فهي مجتمعات بشرية تتسم بقدر من التوتر والاحتكاك بين أعضاء الأغلبية وأعضاء الأقلية، ومع هذا فعادة ما تخف حدة معاداة اليهود حين يتحول أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة وظيفية وسيطة متميزة تميزا واضحا إلى أعضاء في الطبقة الوسطى، تتميز بشكل أقل وضوحا ولا تختلف في وظيفتها ولا في قيمها ولا في رؤيتها للعالم عن أعضاء الطبقة الوسطى في المجتمع ككل، وفي هذه الحالة عادة ما يأخذ التعصب الديني أو العرقي ضد أعضاء الجماعة اليهودية شكل سلوك فردي من أشخاص متعصبين حقودين، ولا يشكل ظاهرة اجتماعية تساندها مؤسسات حكومية أو غير حكومية.