أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).. مراحل التحولات والتغيرات لتحسين الصورة
أصبحت القيادة الجديدة في سوريا تواجه
تحديات هائلة لإعادة بناء البلاد، وذلك بعد فرار وخروج بشار الأسد من دمشق في صباح
يوم الـ 9 ديسمبر، مما أدى إلى فراغ في السلطة وإدارة وحكم البلاد، لكن ورغم
الصعوبات والعراقيل والانتقادات تحاول هذه القيادة الوليدة الحفاظ على وحدة الصف
ومعالجة التحديات الأمنية والسياسية، كما ولا يزال الجدل قائما حول مستقبل أحمد
الشرع (أبو محمد الجولاني) ودوره في هذه المرحلة الانتقالية، فقصة أحمد الشرع (أبو
محمد الجولاني) تمثل جزءا من تاريخ الثورة السورية وتحولاتها، وذلك من شاب متحمس
للجهاد في العراق إلى قائد مثير للجدل في سوريا، حيث مرّ الشرع بمراحل معقدة شكلت
مساره وساهمت في تحديد مصير مناطق واسعة من سوريا، ولهذا ينظر إلى أحمد الشرع من
زوايا مختلفة، فالمؤيدون يعتبرونه بطلا ثوريا قدم الكثير للثورة السورية، وكان
شخصية حاسمة في تنظيم المقاومة وتوحيد الصفوف، أما المعارضون فيتهمونه بالتطرف
وارتباطه بجماعات دموية مثل القاعدة وداعش، كما ويرى هؤلاء أيضا أن وجوده ساهم في
تشويه صورة الثورة السورية عالميا، فيما المحايدون يرونه شخصا عاديا تعرض لظروف مختلفة
ومتنوعة، ويمكن أن يتغير ويتأقلم حسب الأوضاع والمصالح المستجدة.
يعتبر أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، شخصية مثيرة للجدل على الساحة
السياسية والعسكرية السورية والإقليمية، وأيضا في تاريخ الحركات الجهادية السورية،
وتتنوع الآراء حوله بين كونه زعيما إصلاحيا قادرا على التكيف مع المتغيرات
الدولية، أو مجرد عميل وأداة في لعبة جيوسياسية أكبر، تدار خيوطها من قوى إقليمية
ودولية، وكيف أنه كان مسؤول عن تصفية قادة الفصائل الكبرى في سوريا، متسائلين عن
سبب بقائه حتى الآن في حين أُطيح بغيره، وهكذا تعددت الروايات وتناقضت الشهادات
حول شخصيته المحورية وحول الأفعال والقرارات التي شكلت مسار الأحداث في حياته، حيث
أن أقارب الشرع وأصدقاء من حوله يصفونه بالمثقف والمتدين، كما ويبدو في شهاداتهم
كإنسان صارم وحازم وهو ما يعتبرونه مطلوبا في العمل الثوري، في المقابل تبقى
الانتقادات والاتهامات بالانتهاكات والفضائح الموجهة إليه النظير الآخر من هذه
القصص، وهو الذي أدار ملفات أمنية في فترات حرجة، ووصف بكونه حازما وصارما في
الأساليب والقرارات التي اتبعها واتخذها، ما يفتح نافذة على طبيعة التعقيد في مشهد
الثورة والحركات المسلحة، وهنا تتمثل المشكلة في صعوبة الفصل بين الروايات
والأحكام القاطعة.
لقد برز اسم أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) أولا كقيادي في تنظيم القاعدة، حيث كان جزءا من الشبكة التي روجت لأفكار الجهاد العالمي، هذا وفي الوقت الذي كانت فيه الفصائل الإسلامية تخضع لضغوط محلية ودولية، أعلن الشرع فك ارتباطه بتنظيم القاعدة عام 2016، مشيرا إلى أن ذلك كان ضرورة لتحقيق أهداف الثورة السورية، ولكن لا تزال هذه الخطوة محل شك لدى كثيرين، وهناك من يرى أنها جاءت في سياق استراتيجية تهدف إلى كسب القبول الدولي والإقليمي، في حين يرى آخرون أنها تعكس تحولا حقيقيا في رؤيته السياسية والتنظيمية، وهذه المراحل المتعددة والمنعطفات الكبيرة في مسيرته السياسية والعسكرية قدمت له تحولات وتقييمات متباينة، ففي بداياته كان يصنف كجهادي قاعدي، ومع فك الارتباط مع تنظيم القاعدة، بدأ تطوره كقائد تقليدي مقبول، وهذا ما جعل الغرب يرى فيه شريكا محتملا للحوار والنقاش، كما وأن هذا التطور أثار العديد من الأسئلة والتكهنات حول دوره في مستقبل سوريا ومقدرته على قيادة البلاد في هذه المرحلة الحرجة.
هذا ويجب أن يذكر هنا أنه عندما أعلن الجولاني الانفصال عن تنظيم القاعدة، تغير نهجه بشكل ملحوظ، فسابقا كانت جبهة النصرة ترفض رفع أي شعارات تتعلق بالثورة السورية، مركزة على فكرة الجهاد العالمي، لكن بعد الانفصال، بدأ الخطاب يتحول نحو الثورة السورية وتأسيس دولة مدنية لكل السوريين، وهذا التحول أكسب الجولاني دعما شعبيا من قطاعات جديدة، لكنه قوبل بانتقادات من العلمانيين الذين شككوا في نواياه، كما حاول الجولاني تغيير صورته أمام الغرب، بحيث أرسل رسالة إلى الإدارة الأمريكية خلال عهد ترامب الأول قال فيها: "نحن لسنا إرهابيين، نريد أن نكون أصدقائكم ونقاتل نظام الأسد فقط"، إلا أن السفير الأمريكي السابق جيمس جيفري أشار إلى أن الرد كان حذرا، ولم تتخذ خطوات ملموسة لإزالة اسم الجولاني من قائمة الإرهاب.
لكن تغيرت مواقف القوى الإقليمية
والدولية تجاه أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) مع مرور الوقت، وبسبب التحولات
السياسية والتوازنات الجديدة، أصبح يصنف كشخصية تقليدية مقبولة، حيث يرى بعض
المراقبين أن هذا التغير يعكس محاولات الدول الكبرى لإعادة صياغة المشهد السياسي
السوري بما يتماشى مع مصالحها، فالإعلام الغربي وخصوصا الأمريكي، أصبح يظهر أحمد
الشرع (أبو محمد الجولاني) بأنه هو «أقل الخيارات سوءا» في سوريا اليوم كما كان
قبلها في (إدلب)، معتبرا أن التعامل معه يعد ضرورة لتجنب تدهور الأوضاع في
المنطقة، وذلك مع أخذ كل الظروف غير الطبيعية التي تفرض هذا التواصل.
هذا وفي سبتمبر الماضي، عاد الجولاني
إلى الواجهة السياسية في سوريا، حيث حاول إيصال رسالة مفادها أن هيئة تحرير الشام
تقدم تجربة ناجحة في إدارة إدلب، كما أشار إلى أن إدلب تسير نحو "فجر
جديد"، معتبرا أن النصر في دمشق بات قريبا، ورغم انتقادات البعض واعتبار
كلماته مجرد أحلام، إلا أن التطورات الميدانية أشارت بعدها إلى أن هيئة تحرير
الشام عملت بجدية على تحقيق تغييرات ملموسة في الساحة السورية، وعلى الرغم من ذلك
فقد شهدت فترة حكمه انتقادات بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور وتظاهرات ضد سلطته،
متهمة إياه بالتعذيب والقمع، وهذه التظاهرات أعادت إلى الواجهة الجدل حول السجون
التي يديرها الجولاني، حيث واجه انتقادات دولية ومحلية بسبب ممارسات الاعتقال
والتعذيب.
وهكذا نرى كيف أن الجولاني كان يمثل
حالة معقدة في المشهد السوري، فمن جهة يسعى لتقديم نفسه كقائد شرعي قادر على إدارة
منطقة محررة، ومن جهة أخرى تظل ممارساته القمعية محط انتقاد واسع، لكن في ظل التحولات
الإقليمية والدولية، فإن الجولاني وهيئته عملوا كما ظهر مؤخرا على مدى سنتين
للتحضير لجولة جديدة من المواجهة مع نظام بشار الأسد، حيث أُنشأ كلية عسكرية خرّجت
مئات الضباط والعسكريين المدربين، وهذه الجهود أثمرت خلال الجولة الثانية من
الثورة السورية التي بدأت في نوفمبر الماضي وأسقطت النظام في دمشق، كما أن حرب
أوكرانيا وانشغال روسيا بالصراع، إضافة إلى التحركات الإسرائيلية ضد حزب الله
واحتواء إيران، ساهمت كلها في تهيئة الساحة السورية لتغيرات كبيرة، وهذا الوضع دفع
الجولاني لاستغلال الفرصة وتحريك قواته لتحقيق مكاسب على الأرض.
ولهذا فإنه في بداية ديسمبر عام 2024،
شهدت الساحة السورية تطورا كبيرا بسيطرة المعارضة على أجزاء واسعة من مدينة حلب،
وتزامن ذلك مع المقابلة الثانية التي أجراها الجولاني (أحمد الشرع)، مع قناة
"سي إن إن"، حيث سعى لتقديم رسائل طمأنة لسكان المناطق التي سيطرت عليها
المعارضة وتوضيح موقفه من النظام السوري، وكرر الشرع في هذه المقابلة ما كان قد
ذكره في مقابلة سابقة مع برنامج "فرونت لاين"، موضحا أنه تخلى عن أفكاره
الجهادية السابقة، وهنا علقت المديرة العامة للمعهد الملكي للخدمات "كارين
فون هيبل" على تصريحات الشرع، مشيرة إلى صعوبة تحديد ما إذا كان قد تخلى
تماما عن فكر القاعدة، لكنها وصفت تصريحاته بأنها إيجابية حتى الآن، خاصة فيما
يتعلق بحماية الأقليات وعدم فرض الشريعة بالقوة، وأضافت أن الوضع في سوريا لم يشهد
حتى الآن عمليات نهب وانتقام شبيهة بما حدث في العراق بعد سقوط النظام، مما يعزز
الثقة المبدئية بالمعارضة.
كما وصرح مسؤول أمريكي لصحيفة
"واشنطن بوست" أن الولايات المتحدة لا تستبعد رفع هيئة تحرير الشام من
قائمة الإرهاب، مشيرا إلى وجود تحديات وشكوك تحتاج للمراقبة، وفي وقت لاحق، أكد
وزير الخارجية الأمريكي السابق أنطوني بلينكن وجود اتصالات مباشرة بين الولايات
المتحدة وهيئة تحرير الشام، مع استمرار تصنيفها كمنظمة إرهابية، وكل ذلك مع تأكيد
أحمد الشرع نفسه على أن أفكاره الجهادية التي تبناها في شبابه كانت نتيجة حماس
وتفاعل مع الأحداث الإقليمية مثل القضية الفلسطينية والغزو الأمريكي للعراق، وأشار
إلى أنه حتى خلال انضمامه لتنظيم القاعدة، كان معارضا لتفجيرات 11 سبتمبر وعمليات
قتل الأبرياء، وأوضح أن الإنسان بطبيعته يتغير مع تقدمه في العمر، وأنه في
الثلاثينيات أو الأربعينيات من عمره يختلف عن فترة العشرينيات، كما عارض الشرع أيضا تصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية، معتبرا أن هذا التصنيف سياسي
في المقام الأول، وأكد معارضته للأساليب الوحشية التي تستخدمها بعض الحركات
الجهادية، مما يعكس تحولا واضحا في موقفه الفكري.
وهكذا نلاحظ كيف تشكل شخصية أحمد
الشرع وتحولاته الفكرية والسياسية نقطة جدل محورية في المشهد السوري، كما وتثير
انقساما حادا بين مؤيديه ومعارضيه، حيث يرى البعض أنه يسعى لإصلاح مسار هيئة تحرير
الشام وتقديم صورة أكثر اعتدالا، بينما يعتبره آخرون عميلا يسعى لتفكيك الفصائل
المعارضة لتحقيق مصالح شخصية أو خارجية، هذا ولا يمكن إنكار أن أحمد الشرع لعب
دورا محوريا في تحرير مناطق واسعة من سوريا وصولا إلى دمشق في فترة قياسية، وتنسب
له قدرات قيادية مميزة في التخطيط العسكري وإدارة الفصائل المتنوعة، مما أكسبه
احتراما بين أتباعه، ومع ذلك لا يخلو سجله من الانتقادات، حيث يواجه
اتهامات من بعض الناشطين السوريين بالتعاون مع الاستخبارات الأمريكية، ويزعم أنه
قدم معلومات ساهمت في مقتل زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، كما
وعلى الرغم من تأكيد الشرع أنه ضد التعذيب والوحشية، تشير تقارير إلى وقوع
انتهاكات داخل سجون إدلب، منها الضرب والضغط النفسي والتعذيب على المعتقلي في المناطق التي يسيطر عليها.
أحمد الشرع يقول إنه تغير، وهذا التغير يواجه بالتشكيك من بعض المراقبين والمحللين، هل هو صادق أم لا؟، هل هو عميل للغرب، والذي شككوا فيه حتى بعض الإسلاميين؟، هل هو براغماتي يلعب لعبة التوازنات؟ هل سيكون بالفعل نموذجا جديدا يعيد صياغة الحركات الإسلامية في المنطقة؟، أم أنه مجرد قائد عابر في مرحلة مضطربة من تاريخ سوريا؟، الإجابة تعتمد على عوامل عدة، حيث تتداخل الأبعاد السياسية والدينية والأمنية في تحديد صورته، بما في ذلك قدرته على التكيف مع المتغيرات، وموقف القوى الإقليمية والدولية، ودعم القاعدة الشعبية له، كما أنه ومع استمرار التطورات على الأرض، تبقى الأسئلة حول نواياه ومصداقيته مفتوحة، مع ترقب لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، ولا يزال السؤال مفتوحا.