مركزية القضية الفلسطينية واستغلالها وتأثيرها على شعوب ودول المنطقة
هناك شعار يقول بـ "مركزية
القضية الفلسطينية" في وطننا العربي والإسلامي، وهو الذي يتحدث عن قضية شعب
فلسطين الذي عانى وما زال يعاني من الاحتلال الإسرائيلي، كما ويتحدث أيضا عن
فلسطين كجزء من صراع أُممي يمتد جذوره إلى التاريخ والدين، وهكذا فإنه بالنسبة
لكثير من المسلمين والعرب، فلسطين ليست مجرد قضية شعب، بل قضية أمة تمتد قدسيتها
إلى الدين والمسجد الأقصى ونبوءات آخر الزمان.
الحقيقة المؤلمة هي أن كثيرا من
الفلسطينيين يرون قضيتهم مركزية لا تناقش، وهذا حقهم إلا أنه مفهوم ملتبس أيضا، حيث
أن الخطأ هنا يكمن في اعتبارها مبررا لتأجيل مشكلات وقضايا الشعوب الأخرى، طبعا لا
يمكن إنكار أهمية القضية الفلسطينية، فهي صراع وجودي وحضاري وديني بيننا وبين
الاحتلال، لكن هذا لا يعني أن تترك الشعوب الأخرى تعاني تحت حكم أنظمة مستبدة بحجة
انتظار حل القضية الفلسطينية، ولهذا لا يمكننا أن نطلب من شعوب بأكملها أن تؤجل
نضالها ضد الطغيان والاستبداد حتى تحل القضية الفلسطينية، خاصة وأن حلها يبدو بعيد
المنال مع تعقيد الوضع الحالي، فكل يوم يمرّ يجعل هذا الحل أصعب، لكن هذا لا يعني
أيضا أن ننسى معاناة الفلسطينيين أو نقلل من أهمية قضيتهم.
كما أن الإشكالية الأخرى في القضية
الفلسطينية تكمن في كيفية استغلال شعاراتها من قبل بعض الأنظمة العربية
والإسلامية، مثل النظام السوري أو النظام الإيراني أو غيرهما، وذلك لتبرير القمع
والاستبداد والحروب لعقود في هذه البلاد، فمثلا رفع نظام الأسد شعار المقاومة
والممانعة ليبقي الشعب السوري في حالة طوارئ دائمة، مبررا الفقر والتجويع ونهب
الثروات بأنها ضرائب "الصمود" لاستعادة الجولان وتحرير فلسطين مستقبلا، ومن المفارقات
هنا أن هذا النظام السوري، والذي يدّعي دعم المقاومة الفلسطينية، كان في الوقت
ذاته يعدم أي سوري يشتبه بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، رغم أن حركة المقاومة
حماس تعد الجناح الفلسطيني للإخوان، وهذا السلوك لم يكن حكرا على سوريا؛ فقد سبقته أنظمة في مصر وليبيا وغيرها،
والتي استغلت القضية الفلسطينية كمبرر وشماعة لإحكام قبضتها الدكتاتورية على هذه
البلاد، وتبرير الطغيان وقمع شعوبها لاستمرارها في الحكم.
ولهذا فإنه من الضروري أن نرتقي في
طريقة رؤيتنا للقضايا المختلفة والمتنوعة
في عالمنا العربي والإسلامي، وذلك بدلا من النظر من منظور ضيق يعكس مصالحنا الضيقة
والشخصية فقط، كما ويجب أيضا أن نحاول توسيع دائرة
النظر لنخفف من هذه الانقسامات وفهم
التعقيدات الحاصلة من زاوية أوسع، كما أنه حتى داخل السلطة أو المقاومة الفلسطينية
نفسها، هناك تيارات وآراء متعارضة حول السعودية وإيران وغيرها من الدول، ومدى
الاقتراب منها أو البعد عنها، لكنهم جميعا يجمعون على هدف واحد: (مقاومة الاحتلال
الإسرائيلي)، وهذه الاختلافات والتناقض أحيانا كثيرة بينهم يبرز كيف تستغل القضايا
المتنوعة وخاصة القضية الفلسطينية لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية وغيرها من مصالح،
وذلك بعيدا عن كل الأصول والمبادئ الحقيقية والراسخة.
للأسف شعوب عربية عديدة عانت من عقود
من الطوارئ والقمع والفقر، وكانت ضحية لمثل هذه الشعارات الزائفة، ورغم أن الكثير
من الفلسطينيين يتفهمون هذا الواقع، إلا أن بعضهم أيضا لا يزال ينظر إلى قضيتهم
كقضية مركزية تستحق تأجيل كل القضايا الأخرى في المنطقة، ولهذا فاليوم نحن بحاجة
ماسة إلى وعي أكثر بالمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي المعقد في العالم العربي
والإسلامي، كما وعلينا أن ندرك أن العدو لكل واحد منا ليس واحدا، وأن القضايا ليست
بسيطة، وأنه لا يمكن اختزال الصراعات في أبعاد طائفية أو وطنية أو حتى دينية فقط،
بل علينا أن نرى الصورة الكاملة والوعي بالمشهد المركب، حيث تتداخل العوامل
السياسية، الجغرافية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الدينية والطائفية.
هذا وتتكرر في التاريخ البشري مواقف
وصراعات تتسم بتعقيداتها الفكرية والأخلاقية، حيث تتداخل فيها السياسة بالمعتقدات
الدينية والاجتماعية والثقافية، وتتقاطع المصالح مع المبادئ، فيظهر الصراع هنا حول
"المعايير المزدوجة"، وهذه الإشكالية ليست مجرد جدل سياسي أو طائفي؛ بل
هي قضية إنسانية وفكرية أعمق تمتد إلى جذور الفهم البشري للحق والعدالة والمنطق،
هذا وتتجلى قضية المعايير المزدوجة عندما يضع الأفراد أو الجماعات معايير ومبادئ
خاصة تحكم تصوراتهم لقضية معينة، ثم يحاكمون الآخرين وفقا لهذه المعايير، والأسوأ من
ذلك أنهم يطلقون اتهامات قاسية تجاه من يخالفهم في تفكير أو رأي أو حتى موقف ما،
وذلك مثل الاتهام بالخيانة أو الخصومة أو التواطؤ مع العدو (الآخر)، وهذه المعضلة
ليست محصورة في الخلافات السياسية أو الطائفية فحسب، بل تمتد إلى قضايا عقائدية
واجتماعية وثقافية.
كما وتظهر دائما بوادر هذه الأزمات والانقسامات
في وطننا العربي والإسلامي، بسبب التوظيف السياسي لزخم الأحداث التي تحدث
بالمنطقة، بحيث تتعالى أصوات الكثيرين بالشعارات مثل "الوطن أولا"
و"سوريا أولا" و"فلسطين ليست قضيتي" وغيرها الكثير، وهنا نجد
أنفسنا أمام واقع مرير من الانقسامات التي تبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتنتشر
كالنار في الهشيم، وهذه الأصوات ليست وليدة اللحظة، بل تنطلق من جذور أعمق تستغل
الظروف الحالية لتغذي الفتنة بين الشعوب والدول المختلفة، وذلك حتى بين أولئك
الذين يشتركون في نفس المعتقدات والأهداف.
نحن أمة واحدة تجمعنا العقيدة والهدف،
وأي انقسام بيننا هو خدمة مجانية لأعدائنا، ولهذا يجب أن نضع خلافاتنا جانبا ونعمل
معا لنهضة حقيقية تشمل الجميع، وذلك لأن معركتنا الكبرى ليست فقط على الأرض، بل
على القلوب والعقول أيضا، والتاريخ يعلمنا أن الفتن لا تأتي من فراغ، بل تحتاج إلى
من يغذيها ويستثمر فيها، ونحن بحاجة إلى وعي حقيقي يدرك أن انقساماتنا تخدم
أعداءنا فقط، كما أننا بحاجة إلى طرح خطاب جديد يجمع ولا يفرّق، كما وأن يقدّر
أهمية كل قضية دون أن يجعلها ذريعة لتجاهل قضايا وحقوق الآخرين.
وأخيرا نقول أننا نحتاج لفهم أعمق
للوحدة والتعاون بيننا، وأن نعلم من هو العدو المشترك والخصوم المختلفين
والمتعددين، كما وأن نعيّ جيدا بأن الانقسامات الحالية بين الشعوب العربية
والمسلمة تخدم العدو المشترك الذي يسعى لتفتيت وحدتنا، وتخدم الخصوم الذين يريدون
تحقيق مصالحهم على حسابنا (أوطانا وشعوبا)، ولهذا علينا أن نعود إلى المبادئ والقيم
التي توحدنا وتجمعنا، ونستلهم من التاريخ كيف تجاوز المسلمون أزمات الفتن
والانقسامات والخلافات بينهم، فالقضية ليست فقط قضية فلسطين أو سوريا أو العراق أو
غيرها، بل هي قضية أمة تعاني من محاولات مستمرة للتفكيك والتشرذم، وكلما أدركنا
ذلك بوضوح وبيقين، اقتربنا أكثر من فهم الطريق نحو الوحدة والنهوض مجددا كدول وأمة
عربية إسلامية مجتمعة ومتحدة.