الإسلام
والديمقراطيات الليبرالية الغربية.. جدل
الهوية والتسامح والتغريب
- أزمة الشرعية في الأنظمة السياسية بين الحداثة وطرد الهوية الإسلامية -
تعتبر المجتمعات
الديمقراطية الليبرالية الراسخة اليوم نفسها بيئات تتسم بالتسامح، كما وتفتخر
بأنها مجتمعات تستطيع التعامل مع الاختلافات الثقافية والدينية وتعترف بالتنوع
العرقي، وهذه الرؤية تأتي مع نوع من التأكيد على قيم الحرية والاحترام المتبادل،
وغالبا ما يتم تقديم هذه الصورة على أنها دليل على تحضر هذه المجتمعات مقارنةً
بالعالم العربي والإسلامي، والذي يصور في الخطاب السائد كثيرا بأنه يفتقر إلى قيم
التسامح والانفتاح، حيث يبدو أن هذا التناقض المتصور بين المجتمعين له جذوره
التاريخية والاجتماعية، وهو أيضا نتيجة تاريخ طويل من التفاعل بين المجتمعات
الغربية والإسلامية، حيث يصور العالم الغربي نفسه كواحة للتقدم والتسامح، بينما
يعرض العالم العربي والإسلامي على أنه مقاوم لهذه القيم.
لكن مثلا إذا
نظرنا تاريخيا إلى إنجلترا والعراق، فسوف نجد مثالين مختلفين للتعامل مع التعددية
والتسامح والإقصاء، حيث شهدت إنجلترا في القرون الوسطى انتشارا للمسيحية بشكل قوي
لدرجة أن جميع المجتمعات ما قبل المسيحية (الوثنية السابقة) اختفت تماما بمرور
الوقت، وأصبحت الثقافة الإنجليزية مسيحية بحتة، خالية من أي آثار تاريخية
للمجتمعات ما قبل المسيحية، أما في العراق والذي دخل تحت الحكم الإسلامي في القرن
السابع ميلادي، وانتشر فيه الإسلام وبسط نفوذه على كل جوانب الحياة فيه، فقد حافظت
المجتمعات ما قبل الإسلامية فيه على وجودها وازدهرت بشكل ما، ولا تزال آثار هذه
الثقافات القديمة قائمة حتى يومنا هذا.
ويظهر
هنا الفارق بين النموذجين، حيث يظهر العراق كبيئة أكثر تسامحا وقبولا للتنوع
الثقافي تحت مظلة الحكم العربي والإسلامي، في حين اعتمد النموذج الإنجليزي على
التجانس الديني والإقصاء وفرض هوية مسيحية خالصة، وتبقى هذه المقارنة شاهدا على
إمكانية المسلمين في بناء مجتمعات تحترم التنوع وتقبل الاختلافات الثقافية، بينما
تعكس إنجلترا مثالا لإقصاء المجتمعات الأخرى من أجل فرض هوية دينية وثقافية موحدة
ومتجانسة.
كما وتجدر
الإشارة أيضا إلى أن الدولة العثمانية، باعتبارها نموذجا للدولة الإسلامية الأقوى
في التاريخ الحديث، استطاعت الحفاظ على تعدديتها الثقافية والدينية بدرجة كبيرة،
مما جعلها نموذجا يختلف تماما عن النموذج الأوروبي، إلا أن الضغط الغربي وتبني بعض
المفكرين المسلمين لفكرة تحديث المجتمعات الإسلامية على النمط الغربي أدى إلى ما
يعرف بالتغريب، وهي محاولة لتبني المفاهيم الغربية عن الحداثة، والتي غالبا ما
كانت تتطلب إبعاد الإسلام أو التقليل من تأثيره في الحياة العامة.
هذا وعند الكلام
عن تحديث المجتمعات الإسلامية، غالبا ما يكون التغريب جزءا رئيسيا من النقاش، حيث
فُرض التغريب كسبيل للتقدم والحداثة، إلا أن هذه العملية لم تكن محايدة، إذ كانت
تتطلب بالضرورة تهميشا للهوية الإسلامية، وكان لهذا الطرد القسري للإسلام من
الحياة العامة آثاره العميقة، فقد تمثلت الحداثة بالنسبة للقوى الغربية في إقصاء
القيم والمعتقدات الإسلامية، وذلك لتتجسد الهوية الإسلامية في المجتمعات على أنها
رجعية وغير مواكبة للعصر.
وقد عمّق هذا
التوجه من الفجوة بين المسلمين ومجتمعاتهم وأنظمتهم
السياسية، مما جعل الكثيرين يشعرون بالاغتراب داخل دولهم، حيث لم تعد الحكومات
والأنظمة السياسية في معظم الدول الإسلامية تعبر عن قيم العدالة والرحمة التي يشدد
عليها الإسلام، وشعر المسلمون بأن هذه الأنظمة غير قادرة على تلبية احتياجاتهم
الأساسية، ولا تعكس المثل العليا التي يؤمنون بها من إسلامهم، مما أضعف الشرعية
السياسية لهذه الأنظمة في نظرهم.
وهنا
ظهرت أزمة الشرعية في الأنظمة السياسية الإسلامية في ظل هذه الأوضاع، حيث يعاني
الكثير من العرب والمسلمين من غياب الثقة في الأنظمة السياسية التي تحكمهم، ويرون
أنها تفتقر إلى العدالة والاستقرار والازدهار الذي يسعى إليه الإسلام في الحكم،
فبينما تؤمن الشعوب العربية والإسلامية بأن الحكومة يجب أن تكون عادلة ورحيمة وتطبق
مبادئ الإنصاف، يرون أن الأنظمة الحالية، سواء تلك التي نشأت في فترة الاستعمار أو
بعدها، ليست سوى أدوات لفرض سيطرة سياسية لا تمثل تطلعاتهم ولا تعكس المبادئ
الإسلامية المطلوبة للحياة المجتمعية السليمة.
ولكن مع غياب
المؤسسات التي تعبّر عن آمال العرب والمسلمين وتطلعاتهم بشكل منظم، يصبح من الصعب على
الأفراد التعبير عن هذه المشاعر بطرق ممنهجة، ويظل الشعور بالحاجة إلى الإصلاح
قائما، لكنه يفتقر إلى القنوات المؤسسية التي يمكن أن تترجمه إلى تغييرات حقيقية
على الأرض، وهنا تظهر فكرة البحث عن مستقبل للإسلام في النظام العالمي كضرورة، ومع
ذلك فإن التفكير في إمكانية عودة الإسلام كقوة مؤثرة يتطلب تجاوز مجموعة من
"الجدران المعرفية" و"الجدران الفلسفية" التي بنيت لتشكك في
إمكانية قيام نموذج إسلامي حديث ومستقل، حيث تواجه أي فكرة تسعى لإدماج الإسلام في
المستقبل العالمي بسيل من الحجج التي تروج لعدم إمكانيتها، وتعتبر هذه الحجج
بمثابة الدفاع عن "النظام الإمبراطوري" العالمي الحالي.
كما أنه إذا أردنا فهم إمكانات الإسلام المستقبلية وتطوير رؤية للمستقبل تتجاوز النموذج الغربي، فمن الضروري أن نتعامل مع هذه الحجج الفكرية ونحاول تخطيها، ويتطلب ذلك من المسلمين التفكير العميق في هويتهم وتحدياتهم والعمل على صياغة مشروع حضاري يوازن بين القيم الإسلامية ومتطلبات العالم المعاصر، وتظل مسألة العلاقة بين الإسلام والنظام العالمي المعاصر موضوعا غنيا ومعقدا، ويتطلب فهما نقديا وتاريخيا معمقا لتجاوز العقبات التي يواجهها المسلمون اليوم، فالتحديات التي تقف أمامهم تتجاوز الحدود السياسية لتشمل مفاهيم التغريب وإعادة تعريف الهوية، وكذلك استعادة الشرعية السياسية المستندة إلى مبادئ الإسلام، وفي ظل عالم يسعى لتوحيد المعايير السياسية والثقافية، فإن المسلمين بحاجة إلى رؤية عصرية تعبر عن هويتهم الإسلامية، وفي الوقت ذاته تكون قادرة على التفاعل مع التغيرات العالمية المستمرة، بما يسمح لهم بالاندماج في النظام العالمي دون فقدان شخصيتهم وهويتهم الفريدة.