السلام في القرن السابع عشر وما بعده
قرن من السلام النسبي
في عام 1815 وقعت الدول الأوروبية على معاهدة فينا،والتي قال عنها فريدريك فون جنتر أنها أعادت الأحوال إلى سابق عهدها وأبرمت إتفاقات بين الدول الكبرى لتحقيق التوازن والمحافظة على السلام في المستقبل،وقد وضع هذا المؤتمر أول قانون دولي عام،وذلك من خلال حرية الملاحة في الأنهار الدولية،كما وسوى نهائيا الكثير من المسائل المتعلقة بالسلوك السياسي أو البروتوكول،وهذا ما جعل هذه المعاهدة تعد العالم لبناء سياسي أكثر إكتمالا.
المحالفة المقدسة
بعد نجاح التحالف بين الدول الأوروبية في تحطيم أطماع فرنسا من ناحية السيطرة على القارة،بدأت المحاولة لبناء صرح دولي جديد على أساس المحالفة المقدسة والمحالفة الرباعية،حيث أنه وبتاريخ 26/09/1815 أعلن حكام روسيا والنمسا وبروسيا أنهم يهدفون إلى الإسترشاد في حكمهم لشعوبهم وفي علاقاتهم بالحكومات الأخرى والإلتزام بمبادئ المسحية وهي العدل والتسامح والسلام،وهذا ما أدى إلى ولادة ما يسمى بالمحالفة المقدسة.
المحالفة الرباعية
وقد إقترحتها بريطانيا حيث أنها ألزمت الموقعين عليها بالمحافظة على الترتيبات التي قررتها المعاهدات السابقة من حيث الحدود،وذلك بالقوة المسلحة ولمدة عشرين عام وذلك إبتداءا من تاريخ 20/11/1815 وقد كان أهم ما في هذه الوثيقة الموقعة هو ما تنص عليه المادة السادسة،وهو أن تحدد في فترات معينة محددة إجتماعات بين هذه الدول الأربعة وذلك لبحث المصالح المشتركة الكبرى ودراسة الوسائل الناجحة والتي تحقق الراحة والرخاء والسلام لشعوبها،وإستنادا لهذه المادة كونت الدول المشاركة ما يشبه مجلس الأمن وأقامت نوعا من الحكومة العالمية،وهكذا بدأت فترة من التاريخ الأوروبي الذي أطلق عليه المؤرخون إسم نظام المؤتمرات.
مؤتمر إكس لاشابل
وعقد هذا المؤتمر في تاريخ 1/10/1818 وقد وافق هذا التاريخ جلاء قوات الإحتلال عن فرنسا،ولكن عندما طالبت فرنسا بالإنضمام لهذه المعاهدة وذلك بالمساوة مع الدول الأخرى تباينت وجهات نظر تلك الدول،لأنه كان من التناقض إدخال فرنسا في معاهدة هي في الحقيقة موجهة ضدها،ولكن في الوقت نفسه كانت فرنسا دولة كبرى على الرغم من هزيمتها وكان لابد من إشتراكها بصورة فعالة في كل ما يهم السلم الدولي،وهنا قدم قيصر إقتراحا لعقد معاهدة تضامنية جديدة تنص على أن تضمن كل دول أوروبا ممتلكات بعضها البعض وأن تضمن شكل الحكم القائم في ذلك التاريخ،وقد رحب مترنيخ بالمعاهدة وأعتبرها محافظة وأيدتها بروسيا حتى أنها إقترحت إنشاء جيش دولى مقره في بروكسل،وأما كسلريه البريطاني فأعلن عدم موافقة بلاده على تعهدات تخرج عن نطاق نصوص المعاهدات،كما وأعترض أيضا على فكرة أن تتاح لكل دولة فرصة أن تعتمد بشأن سلامتها على عدالة وحكمة نظامها .
بروتوكول تروباو
عندما صدرت قرارات كرلسباد في عام 1819 إعتبرها مترنيخ فوزا كبيرا لسياسة القمع ومقاومة الحركات القومية والدستورية في ألمانيا،ولكن كسلريه إحتج عليها بإعتبارها تدخلا ليس له مبرر في حرية دول مستقلة ذات سيادة.
وعندما نشأت في ذلك الوقت الثورة في إسبانيا كان القيصر يريد أن يتدخل،ولكنه لقي إعتراضا من النمسا وإنجلتراوبعدها نشأت ثورة في نابلي وأراد مترنيخ التدخل على أساس التفرقة بين الثورات،حيث كان يعتبر أن هناك ثورات من الأعلى أي من الملوك والحكام وهذه أعتبرت مشروعة أما الثورات التي تقوم بها الشعوب فأعتبرت غير مشروعة ويجب التدخل للقضاء عليها.
وهنا رفض كسلريه أن تكون بلاده عضو في عصبة دولية ضد نابلى،ونتيجة لهذا الموقف عقد مؤتمر تروبار في تاريخ 20/10/1820 ونجح مترنيخ بعدها في إصدار بروتوكول تروبار في 19/11/1820 والذي نص على أن الحكومات الناتجة عن الثورات وتهدد غيرها من الدول فإنها لا تصبح عضو في المحالفة الأوروبية وتبعد عنها حتى تعطي ضمانات بالنظام والإستقرار، وقد كان رد كسلريه البريطاني أن هذا البروتكول يجعل من المحالفة ( دولة فوق الدول ) وأن إنجلترا لن تكون شريكة في نظام يعمل على خلق نوع من الحكومة في أوروبا.
إخفاق التجربة الدولية
إن السبب في إخفاق هذه التجارب هو أنه لم يكن هناك أساس من أول الأمر للأعمال التي تقوم بها تلك المؤتمرات،فعندما تكون المسائل التي تتصادم فيها رغبات الشعوب ومعتقداتها ومصالحها معروضة للبحث وإتخاذ القرارات بشأنها،فمن أوجب الأشياء الإتفاق مقدما على ما تستطيع تلك الجمعيات أن تنظر فيه من مسائل،وفضلا عن ذلك فإن النظام كما تريده الدول الإستبدادية يهدف إلى خلق أداة أعلى سلطانا من أعضائها وغيرهم وتعطي لنفسها حق التدخل والإشراف.
نظام التفاهم والعمل المشترك
تولد عن هذه التجربة الدولية نظام جديد ذو طابع عملي يعمل على تنظيم شؤون القارة ويبحث في المسائل الكبرى التي تمس أعضائها،وذلك في ظل التفاهم والعمل المشترك بين الدول الكبرى،ولم تكن هناك معاهدة عامة تربط الدول بمبادئ عامة أو بفكرة معينة بل إحتفظت كل دولة بحريتها التامة في العمل والتفاهم مع غيرها،وقد ساهم هذا العمل المشترك في الحيلولة دون وقوع النزاعات المسلحة،وقد دام هذا النظام طويلا إلى أن إندلعت الحرب العالمية الأولى،وقد عبر ألفريد زيمرن عن هذا النظام بقوله (نظام حقوق بلا واجبات ونظام مسوؤليات بغير تنظيم).
وقد تخلل هذا النظام ثلاث فترات هي :
1-الفترة الأولى (1822 -1848) : وفي هذه الفترة ساد السلام بين الدول الكبرى التي إستطاعت أن تحل الكثير من المشكلات
الناشئة عن نمو الروح القومية وعن الرغبة في تعديل التسوية التي قررها مؤتمر فينا.
2-الفترة الثانية (1848 -1871) : وفي هذه الفترة إنتهت حرب القرم وذلك بعقد مؤتمر باريس عام 1856 والذي أقرّ مايلي:
أ-حياد البحر الأسود وفتحه للملاحة التجارية وحدها.
ب-دخول تركيا في دائرة القانون العام ونظام الإتحاد الأوروبي مع ضمان إستقلالها وسلامة أراضيها .
ج-تشكيل لجنة الدانوب من جميع الدول الموقعة على المعاهدة.
د-أعطاء الدول التي تقوم بينها نزاعات حق عرض الأمر على وساطة دولة صديقة وذلك قبل اللجوء للسلاح.
ر-إقرار القانون البحري الذي نص على إلغاء الحروب البحرية الخاصة،وأنّ الراية المحايدة تحمي بضائع العدو والسفن المحايدة بإستثناء المهربات الحربية .
ولكن الجهود الدبلوماسية لمنع الحرب بين بروسيا والنمسا وبين فرنسا من جهة و بروسيا وألمانيا من جهة أخرى كلها أخفقت و فشلت،ولكن برزت حقيقتان هامتان وهما أن النظام الأوروبي نجح في حصر الحرب بين الأطراف المتنازعة وحال دون تحولها إلى حرب عامة تشترك فيها جميع الدول،ولكنه في الوقت نفسه عجز عن منع القتال بين الدول الكبرى.
3-الفترة الثالثة (1871 -1914) : في هذه الفترة تم حل العديد من المشكلات وذلك بإتباع سياسة التفاهم والعمل المشترك،فقد عقد مؤتمر برلين الذي حطم معاهدة سان ستيفانو التي فرضتها روسيا على الدولة العثمانية وقد حال ذلك دون نشوء حرب بين إنجلترا و روسيا،ومن ثم إجتمع المؤتمر لحل مشكلة الحدود بين تركيا واليونان،وقد إمتدت هذه السياسة إلى أفريقيا وذلك من خلال وضع قواعد عامة تتبعها الدول الكبرى في إستيلائها على الأراضي الإفريقية .
أسباب ومظاهر الإتجاه إلى التعاون الدولي
شهد العالم في خلال القرن التاسع العشر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى إتجاها متزايد نحو التعاون بين أعضاء المجتمع الدولى ليس في مجال السياسة فقط ولكن في ميادين الإقتصاد والإجتماع والثقافة،وقد كان من خصائص هذه الفترة إزدياد الشعور بضرورة تقييد الحرب إن لم يكن القضاء عليها،وقد وضحت أيضا روح من الإنسانية تؤمن بوحدة الجنس البشري من حيث النشأة والتطور والغاية،كما وظهرت قوى وعي جديد سميت بالعقلية الدولية وهي القوة التي تتخطى حدود وطن الفرد إلى الشعب الذي نبتت جذوره في تربة أخرى.
ومن القوة التي دفعت إلى التعاون الدولي أيضا هو التطور العظيم في وسائل الموصلات والإتصالات،وهذا ما ساعد على خلق الرأي العام الدولي وذلك بإستخدام الآلات في الطباعة وإنتشار الصحف والمجلات،وقد ساعد شيوع التعليم في معظم البلدان المتحضرة على الإستفادة من تلك الوسائل .
أما الإنقلاب الصناعي الحديث فقد إرتبط بالرأسمالية والحركة العمالية،حيث أن الرأسمالية لا تعترف بالحواجز القومية أو الحدود الوضعية،أما الحركة العمالية والتي تميزت بإزدياد عدد الطبقة العاملة فيها وتشاركهم في الآمال والآلام،فكان من الطبيعي لها أن تتخذ طابعا دوليا،وقد كان من نتائج هذا الإنقلاب الصناعي زيادة في الإنتاج حيث أصبحت الأسواق المحلية لهذه الشعوب الصناعية غير قادرة على إستيعابه،وهذا أدى إلى زيادة العلاقات بين أجزاء العالم،لهذا ذهب البعض إلى أن يقول أن التجارة الدولية هي االعامل الذي سوف يقضي على الحروب في المستقبل .
وقد إشتدت في القرن التاسع العشر عملية (تأريب) العالم أي مده بأنموذج مشترك في أساليب الحياة وهو المثل الأوروبي،وقد كان من نتائج ذلك هو الإتصال بالحضارات الأخرى وتعظيم نشاط الحركة السلمية،وفي عام 1814 دعا وليم آلن من جماعة (الأصدقاء) عدد من إخوانه للنظر في الوسائل المؤدية إلى تحقيق سلام عالمي دائم .
الفوضى الدولية
وهي إنتشار الفوضى فوق المجتمع الدولي،أما في الإصطلاح فتعني الحالة التي تكون فيها كل دولة قانونا بالنسبة لغيرها،ففي مجال القانون الدولي المستند إلى قواعد الفوضى الدولية ومقدماتها يكون حق كل دولة ذات سيادة في البقاء والمحافظة على الذات وهو أول الحقوق والواجبات جميعا،فحينما ينشأ تعارض بين حق دولة في المحافظة على الذات وبين واجب تلك الدولة في إحترام حق دولة أخرى فإن الإحتفاظ بالذات يتغلب على الواجب.