التنمية السياسية من الخمسينات إلى السبعينات
ينصرف الحديث عن أفكار التنمية السياسية في العموم وخصوصا في مراحلها الأولى إلى إسهامات مجموعة من العلماء الأمريكان،الذين ضمتهم على وجه الخصوص لجنة السياسات المقارنة التابعة لمجلس بحوث العلوم الإجتماعية الأمريكي والذي كان برئاسة جابرييل ألموند،حيث تعرضت أدبيات التنمية السياسية لدى نشأتها لمؤثري الأيديولوجية الليبرالية الأمريكية من جانب والأيديولوجية التنموية من جانب آخر،وقد أدت هذه الخلفية الثقافية إلى نمو الأدبيات السلوكية بخصوص التنمية السياسية،ممثلة إنتقالا هاما من المرحلة الشكلية القانونية،بما إنطوى عليه ذلك من التحول في المنهجية من المتغيرات القانونية والمؤسسية إلى المتغيرات الإقتصادية والإجتماعية والنفسية،بحيث كانت القضية المحورية هي كيفية إحداث تنمية سياسية في الدول الجديدة في إفريقيا وآسيا بشكل يؤدي إلى إقامة الديمقراطية الليبرالية فيها،وقد كان هذا التركيز على التحرك نحو الديمقراطية الليبرالية مجرد جزء من نظرية أشمل للتحديث قائمة على التفرقة بين الحداثة التقليدية في كافة العلوم الإجتماعية وهو التقسيم الذي إستند إلى أفكار فيبر حول التقليدية كحقيقة سابقة عن الدولة وعلى العقلانية وعلى التصنيع،ومنها يمكن تعريف التنمية السياسية كحقيقة فكرية بأنها تمثل إسهام علم السياسة في نظرية التحديث التي تقاسمتها كافة فروع العلوم الإجتماعية والتي طرحت إفتراضاتها النظرية الواسعة حول المجتمعات المختلفة.
التحديث والتنمية السياسية
من الناحية التاريخية يشير التحديث إلى عملية التغير نحو تلك الأنماط من النظم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية،والتي تطورت في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر ثم إنتشرت إلى بلاد أوروبية أخرى،كما إنتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى قارات أمريكا الجنوبية وأسيا.
وقد تركز جانب هام من التعريفات التي وضعها علماء الإجتماع والسياسة الغربيون للتحديث حول علاقة الإنسان بالبيئة أساسا،فعرّف بلاك التحديث بأنه العملية التي يمكن بمقتضاها موائمة المؤسسات النامية تاريخيا مع الوظائف المتغيرة بإضطراد،والتي تعكس التزايد غير المسبوق في المعرفة الإنسانية مما يسمح للإنسان بالسيطرة على البيئة التي يعيش فيها وهو ما صحبته الثورة العلمية،أما دانكورات روستو فيرى أن التحديث هو عملية التوسع السريع في السيطرة على الطبيعة من خلال التعاون الوثيق بين البشر،وفي هذا السياق ربما كانت أكثر الأبعاد درامية في التحديث تتمثل في الثورة التكنولوجيا التي حملت معها إتجاهات هامة في مجالات التصنيع والتنمية الإقتصادية والإتصال.
كما وتتسم المجتمعات الحديثة بدرجة عالية من التمايز والتخصص فيما يتعلق بأنشطة الأفراد والأبنية المؤسسية،حيث لا يتحدد التجنيد لتلك الأنشطة والمؤسسات في المجتمعات الحديثة بأي إطار ثابت من علاقات القرابة أو بطائفية إقليمية أو بطبقة إجتماعية،بل يرتبط هذا كله بنمو مؤسسات مثل الأسواق في الحياة الإقتصادية والتصويت والنشاط الحزبي في السياسة والتنظيمات والآليات البيروقراطية في معظم الميادين العامة.
ومما سبق نستنتج أن التنمية السياسية تتعلق بالتحديث في المجال السياسي،مما جعل البعض يتحدث أيضا عن التحديث السياسي،ويصبح بالتالي المفهومان (التحديث والتنمية السياسية) متمايزين تحليليا ولكنهما متداخلان فعليا،الأمر الذي سمح بالحديث عن وجود علاقة ديالكتيكية بين الظاهرتين،فالنخب السياسية في سعيها جزئيا لتعظيم قوتها وسلطتها قد تسعى إلى تحقيق عمليات التحديث والإسراع بها في داخل مجتمعاتها،وفي المقابل فإن قوى التحديث تؤثر في نفس الوقت على سلوك وسياسات النخبة الحاكمة،وكما يقول بايندر إن وجهة النظر التى تلقى قبولا واسعا هي أن السياسة كانت بالأساس إستجابة للقوى التاريخية للتحديث،أما في خارج أوروبا فإن النظرة السائدة هي العكس فليست السياسة إستجابة للتحديث ولكنها بالعكس هي سبب التحديث.
وإذا كانت المتغيرات الممكن إحداثها يمكن أن تتم بسهولة نسبية في المجالات المرتبطة بالبيئة الطبيعية أي (المجالات التكنولوجية والإقتصادية)،فإن الأمر لا ينطبق على النظام الإجتماعي السياسي،حيث تميل نظم الحكم التقليدية إلى مقاومة التغيرات الجذرية في تلك المجالات،ولهذا فإن المطالبة بالمساواة والمشاركة السياسية والتنمية الإجتماعية عادة ما تكون هي آخر القضايا التي تتم مواجهتها،ولذلك فإنه إذا أريد للتنمية السياسية أن تأخذ مجراها فإنها يجب أن تتضمن القدرة على التغيير المستمر فيما يتعلق بتلك القضايا الإجتماعية والسياسية الخاصة.
إلا أن التحديد الدقيق لمفهوم التنمية السياسية كان في ذاته محلا لإختلافات وإجتهادات واسعة،الأمر الذي حدا بلوسيان بآي إلى أن يعدد في دراسته المسحية لأدبيات التنمية في منتصف الستينات عشر تعريفات مختلفة للتنمية السياسية،وهذا يدل على أن تعبير أدبيات التنمية السياسية خصوصا في الفترة من منتصف الخمسينات إلى منتصف الستينات عن مفاهيم نظرية التحديث القائمة على مقابلة التقليدية بالحداثة،إنطوى على الإعتقاد بأن جوهر التنمية يتمثل في تحول المجتمعات المتخلفة من الحالة التقليدية إلى الحالة الحديثة،الأمر الذي يمثل مجرد مشكلة فنية،بحيث نظر إلى ذلك الإنتقال على أنه يتم في شكل تقدم خطي وأحادي ومبسط وأنه لابد من أن يتجه بالتحديد نحو النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية.
على أن التطورات التي حدثت على أرض الواقع في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتنية،والتي تمثلت في عجز النظم السياسية القائمة فيها ليس عن تحقيق التغير المنشود نحو تحديث مؤسساتها وممارساتها السياسية ومحاكاة الأنماط الغربية فحسب وإنما أيضا عن مجرد البقاء أو الإحتفاظ بقدرتها على أن تحكم،حمل تأثيراته إلى آدبيات التنمية السياسية والتي كان عالم السياسية الأمريكي صمويل هنتينجتون بالذات أبرز المعبرين عن هذا التحول،حيث عكست كتاباته الإنتقال من التأكيد على الديمقراطية إلى التأكيد على النظام العام.
أخيرا وإستنادا إلى مجمل دراسات التنمية السياسية،فإن المقومات الأساسية لمفهوم التنمية السياسية والتي يفترض أن يسعى إليها المجتمع،إنما تتمثل في 3 مفاهيم أساسية هي (المساواة – التمايز – القدرة).
-المساواة: بمعنى أن تسود في المجتمع قواعد ونظم قانونية تتسم بالعمومية وتنطبق على جميع الأفراد فيه بغض النظر عن إختلافاتهم في الدين أو العرق أو الطبقة،وأن يكون تولي المناصب العامة في هذا المجتمع قائما على الكفاءة والتفوق والقدرة على الإنجاز وليس على إعتبارات ضيقة أخرى مثل القرابة والنسب والعلاقات الشخصية،كما يعني أيضا تحقيق المزيد من المشاركة الشعبية في وضع السياسات العامة وفي إختيار الأشخاص لتولي المناصب العامة.
-التمايز: بمعنى التخصص والفصل بين الأدوار وكذلك بين المؤسسات والإتحادات في المجتمع الآخذ في التحديث،فكلما تقدم النظام السياسي في طريق التنمية السياسية كلما زاد تعقد الأبنية فيه وكلما تزايد عدد الوحدات السياسية والإدارية فيه.
-القدرة: بمعنى ليس فقط على إزالة الإنقسامات ومعالجة التوترات في المجتمع وإنما أيضا على الإستجابة للمطالب الشعبية بالمشاركة والعدالة التوزيعية المرتبطة بالمساواة،وكذلك قدرته على الإبداع والتكيف في مواجهة التغيرات المستمرة التي يمر بها المجتمع.
أزمات التنمية السياسية
وهي الأزمات التي يستلزم حلها لتحقيق التنمية السياسية (الهوية – الشرعية – المشاركة – التغلغل –التوزيع).
-أزمة الهوية: وهي تحدث عندما يصعب إنصهار كافة أفراد المجتمع في بوتقة واحدة تتجاوز إنتماءاتهم الضيقة أو التقليدية وتتغلب على آثار الإنتقال إلى المجتمع العصري بتعقيداته المختلفة،بحيث يشعرون بالإنتماء إلى ذلك المجتمع والتوحد معه.
-أزمة الشرعية: وهي تتعلق بعدم تقبل المواطنين المحكومين لنظام سياسي أو نخبة حاكمة بإعتباره غير شرعي أو لا يتمتع بالشرعية،أي لا يتمتع بسند أو أساس يخوله الحكم وإتخاذ القرارات،وقد يستند هذا السند أو الأساس إلى الطابع الكاريزمي أو التاريخي للزعيم أو إلى الدين أو الأعراف أو التقاليد أو القانون.
-أزمة المشاركة: وهي الأزمة الناتجة عن عدم تمكن الأعداد المتزايدة من المواطنين من الإسهام في الحياة العامة لبلادهم مثل المشاركة في إتخاذ القرارات السياسية أو إختيار المسؤولين الحكوميين،وتحدث هذه الأزمة عندما لا تتوافر مؤسسات معينة يمكن أن تستوعب القوى الراغبة في تلك المشاركة.
-أزمة التغلغل: وهي عدم قدرة الحكومة على التغلغل والنفاذ إلى كافة أنحاء إقليم الدولة وفرض سيطرتها عليه،وكذلك التغلغل إلى كافة الأبنية الإجتماعية والإقتصادية في المجتمع.
-أزمة التوزيع: وهي تتعلق بمهمة النظام السياسي في توزيع الموارد والمنافع المادية وغير المادية في المجتمع،وقد تعني مشكلة التوزيع ليس فقط توزيع عوائد التنمية وإنما أيضا توزيع أعباء التنمية،وفي هذه الأزمة يلتقي علم السياسة مع علم الإقتصاد وتثور مشكلة المعايير التي ينبغي الإعتماد عليها في تحقيق هذا التوزيع.
وأخيرا وبعد مقومات التنمية وأزمات التنمية يتحدث دارسو التنمية السياسية عن تسلسل أو سياق حل أزمات التنمية وأثر ذلك على التطور التاريخي للنظم السياسية،فإحدى مشكلات المجتمعات المتخلفة أو النامية في العالم الثالث هي أنها تكاد تواجه أزمات التنمية السياسية كلها في وقت واحد،في حين أن البلاد المتقدمة في أوروبا وأمريكا غالبا ما واجهت تلك الأزمات بشكل متوال،كما أن ترتيب مواجهة هذه الأزمات غالبا ما يطبع النظم السياسية وتطوراتها،ولذلك فإن البلاد التي بلورة هويتها القومية وتوصلت إلى التسليم بشرعية نظامها قبل أن تواجه بمطالب المشاركة في الشؤون العامة تختلف بوضوح عن تلك البلاد التي ثارت فيها قضية المشاركة الشعبية قبل أن تستقر فيها شرعية المؤسسات العامة أو تحقق فيها الحكومة التغلغل إلى كافة أنحاء المجتمع وهكذا.