نشأة وتطور الظاهرة الحزبية في البلاد العربية
أشارت التطورات التي شهدتها الدولة العثمانية منذ بدايات القرن التاسع
عشر حتى سقوطها عقب الحرب العالمية الأولى إلى وجود مجموعة عوامل وظروف ساهمت في
توفير الشروط وفي التأسيس لنشوء حركة ثقافية وفكرية وسياسية عربية،حيث كانت مقدمة
لنشوء تجارب الأحزاب السياسية العربية،وتظهر هذه التطورات أن ظروف نشأة الأحزاب
السياسية العربية إختلفت عن ظروف نشأة الأحزاب السياسية في الغرب في مسألتين بارزتين،الأولى:
هي أن التجارب الحزبية العربية كانت محكومة برد الفعل أكثر منه بالفعل،أما
الثانية: هي أن العامل الخارجي كان العامل المحدد في قيام معظم تلك التجارب،هذا
بالإضافة إلى أن هذه الأحزاب لم تولد في رحم الديمقراطية،كما ولم تكن الديمقراطية
بدورها تمثل محور إهتمامات وتحديات وأهداف تجارب هذه الأحزاب،على الرغم من إحتلال
مسألة بناء الدولة الحديثة وفق أفكار عصر التنوير الأوروبي حيزاً مهماً في أدبيات
رواد عصر النهضة العربية.
وقد إرتبط قيام الأحزاب السياسية في المجتمع العربي بمجموعة تحديات
وتهديدات خارجية،تمثلت بمظاهر تفكك وتآكل الدولة العثمانية وتزايد إجراءات التتريك
وتصاعد النزعة القومية الطورانية فيها،ثم تصاعد الهجمة الإستعمارية على المنطقة
وما أسفرت عنه من مشاريع تقسيم للمنطقة العربية وسيطرة مباشرة عليها،إضافة إلى
جاذبية الثورة الحداثية في الغرب ونموذج الدولة القومية الذي أفرزته.
وقد بدأ الأمر كله بثورة عرابي باشا،التي عملت على تأجيج النزعة
القومية العربية ورفع موجة العداء العربي ضد الأتراك،والذين كانوا ينظرون إلى
ثورته إذا ما نجحت بأنها ستنطوي على مضاعفات خطيرة من شأنها أن تقرر مصير العرب
كأمة،وهكذا عبرت الحركة القومية العربية عن نفسها من خلال تأسيس الجمعيات الثقافية
والسياسية،وكان أبرز هذه الجمعيات (الجمعية العلمية السورية) في عام (1857) والتي
أطلقت الصرخة الأولى للقومية العربية داعية العرب إلى اليقظة،وهي أول جمعية تقتصر
عضويتها على العرب،كما وقد أكدت الجمعيات السياسية السرية التي تألفت فيما بعد في
كل من بيروت ودمشق والقاهرة وإسطانبول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على
رغبتها في الحكم الذاتي ومن ثم الإنفصال عن الإمبراطورية العثمانية.
فيما ظل النشاط السياسي للنخبة العربية في النصف الثاني من القرن
التاسع عشر محدودا وسريا،وبخاصة في ظل مرحلة الإستبداد الحميدي،إلى أن حصلت
الثورة الدستورية سنة 1908 التي قضت على العصر الحميدي وأفسحت المجال أمام مرحلة
جديدة من العمل السياسي في أوساط النخبة العربية،فبادرت النخبة العربية من خلالها
إلى نشر وعيها الجديد لمفهوم الأمة المستند إلى مرجعية المثال الغربي وتاريخيته
الأوروبية،وترافق هذا التحول مع إخلال جمعية تركيا الفتاة بوعودها الإصلاحية،إلى
جانب تصاعد سياسة التتريك التي عبّرت عنها الجمعية بعد عام 1908،الأمر الذي أدى
إلى توتير العلاقات العربية-التركية وإلى تعميق النزعة الإستقلالية لدى
العرب،والذين كانوا يطمحون في السابق إلى مجرد صيغة لامركزية في إطار وحدة الدولة
العثمانية،إلا أنه عندما إتخذت (تركيا الفتاة) من الوطنية المتطرفة والتفوق العرقي
أساسا لبناء تركيا الجديدة (تركيا القومية الموحدة ثقافياً وسياسياً)،كانت ردة
الفعل عند قادة العرب أنهم راحوا يفكرون بمستقبل أوطانهم العربية بالأسلوب ذاته.
إلى جانب ذلك،شهدت الدولة العثمانية عقب ثورة 1908،تصاعدا لدور
العسكر في العمل السياسي،وبخاصةٍ على يد جمعية (الإتحاد والترقي)،وهي الجمعية
السرية التي أنشأتها تركيا الفتاة بهدف القضاء على إستبداد عبد الحميد،كما وقد
ترافق تصاعد دور الضباط الإتحاديين مع سياسة إقصاء الموظفين غير الأتراك من جهة
ومع سياسة الإلحاق التي شهدتها بعض المناطق العربية من جهة أخرى،وفي ظل الحملة المعادية
للعرب والتي نظمتها صحف جمعية الإتحاد والترقي،وسياسة التتريك التي فرضها
الإتحاديون على مستويات التعليم والإقتصاد والجيش،إلى جانب حل الجمعيات التي
أسستها جماعات غير تركية بما فيها جمعية الأخاء العربي التركي،هذا كله عزز أزمة
الثقة بين الأتراك والشعوب العربية في الدولة العثمانية وأدى إلى تعزيز النزعة
الإستقلالية وإستثارة المشاعر القومية لدى هذه الشعوب،بمن في ذلك الذين عملوا
على تأسيس عدد من الجمعيات والأحزاب السياسية للدفاع عن قضاياهم وحقوقهم،كما وهيّأ
التربة الصالحة لبذور الحركة الإنفصالية العربية بدءاً من عام 1909،ومن ثم جاءت
فترة حكم جمال باشا في سوريا لترفع وتيرة الخلاف بين العرب والأتراك ولتدفع العرب
إلى مزيد من التشدد في نضالهم من أجل الإستقلال عن الدولة العثمانية.
وهكذا جاءت المرحلة التأسيسية للحركات السياسية العربية (الأحزاب) وهي
محكومة بمجموعة مناخات وظروف تاريخية محلية ودولية،حيث طبعت شخصية تلك الحركات بغض
النظر عن إختلافها الإيديولوجي،كما أنها حددت أهدافها وأولوياتها لعقود مقبلة،فبعد
إنتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وإنكفاء القوات التركية عن معظم الأراضي
العربية التي كانت تمثل جزءا من الدولة العثمانية،إتجهت أنظار القادة والسياسيين
العرب إلى تحقيق مشروع الدولة العربية التي حددها الشريف حسين في ظل وعود فرنسية
وبريطانية بدعمها،لكن تمتع العرب بنشوة تحقيق هذا الهدف لم يدم طويلاً،فما كادت
طلائع الجيش العربي تدخل إلى دمشق في أواخر العام 1918 ليعلن الأمير فيصل بن
الحسين قيام الدولة العربية في بلاد الشام (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)،حتى
واجه في مؤتمر الصلح في باريس في بداية العام 1919 بتناقض المصالح الإستعمارية
الفرنسية والبريطانية مع مشروع الدولة تلك،على الرغم من كل الوعود التي سبق
لبريطانيا وفرنسا أن قطعتهما على نفسيهما بدعم مشروع الدولة العربية مقابل
الدعم العربي لهما في حربهما ضد الدولة العثمانية،وهكذا تقاسمت القوات الفرنسية
والقوات البريطانية إحتلال المنطقة وفرضت منها مشاريع كيانات قطرية.
وبهذا فقد كان من نتائج الحرب العالمية الأولى أنها أنهت أحد الأهداف
التي عملت الحركة السياسية العربية من أجل تحقيقها في مرحلة ما قبل تلك الحرب،ألا
وهو الإستقلال النسبي أو الكلي عن الدولة العثمانية،إلا أن مرحلة ما بعد الحرب قد
أعادت تأكيد الأولويات والأهداف التي رسمتها الحركة السياسية العربية لنفسها على
الرغم من تغير العناصر الخارجية المحفزة على تحديد تلك الأهداف،فمشروع الإستقلال
ظل هدفاً مركزياً للحركة السياسية العربية،لكن بدلاً من أن يكون إستقلالاً عن
الدولة العثمانية فسيكون هذه المرة إستقلالاً عن الإستعمار البريطاني والفرنسي
الذي تقاسم المناطق العربية التي إنكفأت القوات التركية عنها عقب الحرب،إلاّ أن
هذه المرحلة (ما بين الحربين) أضافت قضيتين أخريين إلى قائمة أهداف وأولويات تلك
الحركة وهما:
1-القضية الفلسطينية والتي أخذت تباشيرها تتضح مع وعد بلفور وباتت تفرض
نفسها على أهداف ودوافع الحركة السياسية العربية.
2-القضية الإجتماعية والتي ألقت
بظلها على الحركة السياسية العربية،حيث إحتلت قضية العدالة الإجتماعية والإشتراكية
موقعاً مركزياً في قائمة أهدافها.
ولم تكن هذه المرحلة الإستعمارية الأوروبية أقل وقعا على أهداف الحركات
السياسية العربية أو أقل تأثيرا في تحديد أولوياتها أو حتى في تحيد طرائق
عملها،حيث زاد هذا الإنتداب على البلدان العربية من حدة الطلبات بتقرير المصير
وبالإستقلال السياسي،فضلاً على أنه كان سبباً في قيام عدد من الأحزاب
السياسية،بالإضافة إلى أنه وحّد المقاومة ضد الحرب،أما على المستوى التنظيمي
والإجرائي فقد ظل الطابع السري يحكم عمل الكثير من الحركات السياسية وبخاصة
الحركات ذات الطابع القومي التي كانت رداً على الإنتداب وعلى مشروع إحتلال
فلسطين،وقد مثلت عصبة العمل القومي أبرز هذه الحركات،بالإضافة إلى ظهور عدة
نماذج من الأحزاب السياسية العربية هي:
1- الأحزاب القومية العربية التي لم تعترف بشرعية الكيانات القطرية
الوليدة والتي تعمل من أجل تحقيق الوحدة العربية.
2- الأحزاب القومية
الإقليمية التي تركزت أساساً في بلاد الشام، الداعية إلى توحيد سورية الطبيعية.
3- الأحزاب القومية القطرية والأحزاب الوطنية القطرية.
لقد كان حزب البعث العربي الإشتراكي وحركة القوميين العرب أبرز
تنظيمين سياسيين قوميين على الساحة العربية،حيث إتخذ نضالها هماً وطنياً –
قطرياً،سواء على مستوى تحقيق الإستقلال الوطني أو على مستوى الإندماج
الإجتماعي،وذلك أكثر منه هما قومياً يسعى لقيام الدولة العربية الواحدة،وقد إتخذت
هاتين الحركتين قضية الوحدة العربية كقضية مركزية لديهما بوصفها الرد الأنجع على
التحديات المحورية التي يواجهها الوطن العربي،وهذا ما دفع هذين الحزبين إلى توسيع
دائرة نشاطهما الحزبي إلى معظم الأقطار العربية.
4- الأحزاب الشيوعية.
تميزت تجارب الأحزاب الشيوعية العربية في دينامياتها عن تجارب الأحزاب
والحركات القومية والإسلامية،ففي الوقت الذي كانت دينامية رد الفعل الضدي ترتكز في
تحريكها لعملية نشوء التجارب القومية والإسلامية على عوامل موضوعية تمثلت،بنمو
النزعة الطورانية وسياسة التتريك ثم بإنهيار الدولة العثمانية وإنتهاء الخلافة
الإسلامية فيها،مروراً بتقسيم العالم العربي وبفرض السيطرة الإستعمارية المباشرة
عليه،وصولاً إلى قرار تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين،وفي الوقت الذي طغت قضايا
الإستقلال والوحدة والتحرير ومواجهة آثار الإستعمار على أولويات أهداف تلك الحركات
والأحزاب القومية والإسلامية،طغت على أولويات أهداف الأحزاب الشيوعية العربية
قضايا أخرى محكومة بديناميتي رد الفعل التقليدي – التبعي والموضوية، المتحفزتين
بصعود الإتحاد السوفياتي كقطب عالمي متميز بجاذبية أيديولوجية وثورية قادرة على
محاكاة شرائح واسعة من المثقفين والشبان والحرفيين والكادحين.،كما إن تحكم
الدينامية الإيمانية في الثقافة العربية،المترافقة مع نوع من المركزية التنظيمية
والسياسية للحركة الشيوعية العالمية (الكومنترن)،عززا من تحكم ديناميتي الموضوية
ورد الفعل التقليدي - التبعي في الحركة الشيوعية العربية.
وهكذا سنجد مثلاً أن القضايا والتحديات الكبرى التي سيواجهها العالم
العربي في العقود الأربعة في منتصف القرن العشرين ستتعامل الحركة الشيوعية معها
بإتجاه مغاير إلى حد بعيد لإتجاه الحركات السياسية والشعبية العربية بوجه عام،
سواءٌ فيما يتعلق بالموقف من الإستعمار أو فيما يتعلق بقضية الوحدة العربية أو
فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والمشروع االصهيوني،فالأحزاب الشيوعية العربية لم
تستمد نشأتها من الحركة الذاتية للبنية الإجتماعية،كما جرى في البلدان الصناعية
المتقدمة التي إنشقت فيها الأحزاب الشيوعية عن الأحزاب الإشتراكية (فرنسا و
إيطاليا) أو تلك الإشتراكية الديمقراطية (ألمانيا)،بل إرتبط نشوؤها بالظرف الذي
نشأ عن الثورة.
5- الأحزاب الإسلامية.
لم تختلف الحركات الإسلامية في نشأتها عن الحركات القومية من حيث
تحكُّم دينامية رد الفعل الضدي على ظروف النصف الأول من القرن العشرين،فقد مثل
سقوط الخلافة الإسلامية على أيدي الأتاتوركية ذات التوجه العلماني محركاً قوياً
لدينامية رد الفعل الضدي لدى العديد من رجال الدين والمثقفين المسلمين العرب،فقد
أسفر إلغاء الخلافة العثمانية وفشل المساعي لنقلها إلى مصر خلال مؤتمر الخلافة
الإسلامية عام 1926 عن بروز إتجاهين إسلاميين هما تيار السلفية المشرقية الذي مثل
"منار" رشيد رضا ركنه الأساسي،وتيار لاهوتية التحرير المغاربي الذي تمثل
بشكل أساسي بالشيخ عبد الحميد بن باديس (الجزائر) وبالأمير عبد الكريم الخطابي
(المغرب)،وفي هذا السياق جاء تأسيس حسن البنا لحركة الإخوان المسلمين في
الإسكندرية عام 1928 ،حيث كانت إمتداداً حركياً للإصلاحية السلفية المشرقية في
شروط مواجهتها الحادة للنموذج العلماني الكمالي هذا من جهة،وكرد فعل ضدي على
«المنكرات» وعلى التبشير الإنجيلي المسيحي،وعلى بعض تحولات المجتمع المصري الديني
في القاهرة من جهة أخرى،إلى جانب ذلك جهود حركة الإخوان المسلمين الداعية إلى قيام
دولة إسلامية.
وهكذا وعلى الرغم من أن الساحة السياسية العربية تموج بالأحزاب
السياسية بمختلف أفكارها وتوجهاتها ( بإستثناء دول الخليج الستة) فإن الآداء
الحزبي يعد أداءً غير مقنع،كما لم تحقق الحزبية في العالم العربي الأهداف التي
يهدف إليها النظام الحزبي لتدعيم الديمقراطية،حيث أن هناك إنفصام سلوكي تعاني منه
الحياة السياسية في العالم العربي،فلقد سمح بتكوين الأحزاب ولكنها ظلت مقيدة،يعاني
أعضاؤها من الإبعاد والقمع،كما أنه عندما يتم السماح بتكوين الأحزاب يظل الهدف
بعيدا عن الدور الحقيقي لقيامها ويظل مبتغى النظم الحاكمة إنشاء ديكور
ديمقراطي،كما ولا يسمح مطلقاً لهذه الأحزاب المشاركة في السلطة إلا بالقدر الذي
يريده النظام ويرى أنه لا يمثل خطراً على وجوده،وعادة تعترف النظم الحاكمة بالعمل
الحزبي ولكن لا تؤمن مطلقاً بشرعيته،حيث تضع العراقيل أمام حركته وتضيق على حرية
أعضائه حتى يفقد الحزب دوره وحركته وسط الجماهير.
كما إن الفكرة الحزبية العربية لم تكن نتيجة طلب إجتماعي على
الديموقراطية بقدر ما كانت ضرورة من ضرورات النضال الوطني،فكل الأحزاب السياسية
التاريخية تشكلت زمن مواجهة البلاد العربية للوجود الإستعماري والسعي إلى
الإستقلال وإسترداد السيادة،حيث تحددت وظيفتها وقتئذ في تعضيد النضال الوطني من
خلال التعبئة وشحذ وجدان الناس من أجل المقاومة،لذلك لم يكن وارداً في تفكير
مؤسسيها أن تصبح مؤسسات لإنتاج ثقافة سياسية ديموقراطية تعمل على المشاركة وتعزز
التنافس وتذكي روح العمل السياسي الموسوم بالتعددية وتنافس البرامج
والإستراتيجيات،بل أن السياق التاريخي والثقافي الذي أحدثت إبانه هذه الأحزاب لم
يسمح ببروز فكرة التناقض بين الأحزاب المتعددة إن وجدت،بسبب أن الأمر كان يتعلق
بمواجهة تناقض رئيسي يتجسد في الإستعمار ومؤسساته،حيث تم تأجيل كل شيء بإسم مقاومة
الإستعمار،وهكذا خضعت الأحزاب للمنطق نفسه وهي تنحية فكرة التمايز
والأيديولوجي،وإستبعاد آليات التنافس السياسي.
أما بعد إستعادة البلاد العربية لإستقلالها وشروعها في بناء نظمها
السياسية،فقد تراوحت بين حظر الفكرة الحزبية بشكل مطلق أو الترخيص لها ضمن شروط
تقيدية أفرغتها من كل مضمون على صعيد الممارسة،وحتى بالنسبة للدول العربية التي
أخذت بالتعددية وهي قليلة فقد تعذر عليها الإنتقال إلى تعددية سياسية حاضنة
لمبادىء المشاركة التنافسية والتمايز الفكري والأيديولوجي والتداول السلمي
والمنتظم على السلطة،ففي بلاد عربية كثيرة إغتصب الجيش الحكم بالقوة على خلفية
إمتلاكه الشرعية النضالية والوطنية أو بمبررات إحتكاره التمثيلية الشعبية،وفي أحسن
الأحوال قام بتنصيب حزب وحيد لقيادة العمل السياسي وأحدث مؤسسات برلمانية وحكومية
على طرازه،وهذه الأوضاع أعاقت إمكانية ميلاد واقع حزبي قادر على المساهمة في إغناء
الحياة السياسية العربية وتطويرها في إتجاه دمقرطة الدولة والمجتمع.
وهكذا كانت السمات العامة للأحزاب العربية تتميز :
1-شيوع ظاهرة
التحزب على حساب الظاهرة الحزبية بمعنى أن من ينضمون للأحزاب لا يكون ذلك على أساس
الأيمان والإنتفاع بالبرامج التى يطرحها الحزب،بالإضافة إلى الولاء لشخصية
بعينيها،فضلا عن عدم قبول الآخر لدى غالبية الأحزاب العربية وهذا بخلاف ما جبل
عليه العمل الحزبي فى الدول الغربية.
2-شخصنة الأحزاب بمعنى أن الحزب كي يستمر أو
يزيد عضويته،هذا مرتبط بشخصية مؤسسه أو زعيمه،كما وقد تضعف هذه الأحزاب بغياب
الشخصية المسيطرة أو المؤسسة.
3-حدوث الإنشقاقات التي تحدث عادة لأسباب شخصية أو
طائفيه.
4-ضعف آليات التواصل الجماهيري،ومن أسباب ذلك عدم وجود الكوادر المدربة
على إدارة الإتصالات الإعلامية أو نتيجة القمع والترهيب الذى يمارس ضد أحزاب
المعارضة،كما أن حالات التضييق عليها وضعف قدراتها التمويلية يحول وإمتدادها
الجغرافى خارج المركز.
5-التفرد فى القيادة من جانب قادة الأحزاب وبقائهم فى
أماكنهم دون رغبة جادة فى تداول قيادة العمل الحزبي مما أفقد الشباب الرغبة فى
الإنضمام للأحزاب،ولا شك أن غياب الديمقراطية الداخلية في الأحزاب العربية يعد من
أهم أسباب القطيعة بين الأحزاب وقواعدها،كما أنه من الملاحظ أن بقاء قادة
الأحزاب العربية على رأس أحزابهم حتى آخر يوم في حياتهم،بالإضافة إلى أن للعشائرية
والولاءات القبلية دور فى ضعف الإنضمام للأحزاب،فعادة يكون الأعضاء المنضمين خارج
نطاق الطائفة أو العشيرة أعضاء غير مرغوب فيهم.
6-عدم إمتلاك غالبية الأحزاب
لبرامج تهم المواطنين،وحتى ولو إمتلكت مثل هذه البرامج فأن الأحزاب الحاكمة عادة
لا تسمح لها بطرحها على المواطنين.
7-تتسم الأحزاب العربية بشكل عام بهشاشة
التنظيم وذلك نتيجة تعرض الكثير منها للحل وترهيب وقمع أعضائها من جانب النظم
الحاكمة التي تضيق ذرعاَ بالديمقراطية أو حتى فكرة تداول السلطة فضلاً عن هيمنة
ثقافة القبيلة أو الأبوية على الآداء السياسي في غالبية الاحزاب العربية.
وهذه الظاهرة تكاد تكون كربونية في مختلف الأقطار العربية بإستثناء لبنان،ولقد
أدى هذا بطبيعة الأمر إلى عدم قدرة الأحزاب على وضع تصوراتها الخاصة بقضايا
المجتمع كما أدى إلى فقدانها القدرة على إبداء الرأي بالنسبة للقضايا الكبرى
المشتركة،في حين أدى التضييق على الأحزاب بطبيعة الأمر إلى ضعف التواصل مع
المواطنين،فالمواطنون يخشون على أنفسهم لو إنضموا إلى أحزاب المعارضة أن تبدأ
حلقات من القهر الممنهج عليهم بكافة أشكاله وهذا كفيل بتخويف المواطنين
ودفعهم بعيدا عن العمل الحزبي المعارض،فضلاً عن ذلك فهناك سلسلة طويلة من إجراءات
القمع والتخويف التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والتي تمددت حتى لقمة العيش
والتضييق في الأرزاق بل والتدخل المستمر من جانب الدولة لمنع الأحزاب من التحرك
بين الجماهير،والعالم العربي شهد ومازال يشهد تجاوزات صارخة ضد النشطاء السياسيين
من سجن وإخفاء قسري وتصفية جسدية فضلا عن حملات التشويه التى تمارسها النظم
الحاكمة ضد المعارضين،كما أنه من الغريب أن أحزاب السلطة في العالم العربي تعمل
على خلق أحزاب وهمية ديكورية لإيهام المواطنين بأن هناك أحزاباً معارضة في حين
لاوجود لها في الواقع اللهم إلا لافتة تحمل إسم الحزب وجريدة تطبل وتزمر
للديمقراطية الزائفة التي تروج لها الاحزاب الحاكمة،وعادة ما تلجأ الحكومات لهذا
الفعل للحد من الإنتقادات التي تنادى بالإصلاح السياسي والديموقراطي القائمة على
التعددية الحزبية.
لقد فشلت وسقطت الأحزاب العربية ( الحاكمة والمعارضة ) كلها بسبب قمع شعوبها أو بسبب مهادنتها لجلادي شعبها وذلك من أجل نصيبها في الكعكة وخوفها على مصالحها،و أيضا بسبب عجزها عن تحقيق التغيير بكل ما أوتيت من عوامل الدعم،عاكسة بذلك فراغا أفرز نشاطا شكليا لم يقنع الشعوب،كما فشلت وسقطت الناصرية والقومية والبعثية،فهي لم تتمكن من تحرير أرضها ولم تستطع حماية حدودها ولا شعبها،كما أنها لم توفر حتى الحد الأدنى من مقومات الحياة الآدمية لشعوبها،معبرة بذلك عن إفلاس سياسي عقدي منهجي أدائي على جميع الأصعدة،وقد شاركها بهذا الفشل بعض الأحزاب الدينية التي لازالت تشكل أدوات ودعائم لبعض الدول العربية المستبدة، متشدقة بقال الله وقال الرسول وهي أبعد ما تكون عن معاناة شعوبها في مجال التطبيق.
إن فشل وسقوط الأحزاب الليبرالية والعلمانية العربية ومعها بعض الأحزاب الإسلامية يعني هزيمة وراء هزيمة،ليس فقط على صعيد الفكر والرؤية والموقف، فماذا قدمت تلك الأحزاب لشعوبها في عشرات السنين الماضية ؟ وماذا فعلت لفلسطين والعراق والصومال ولبنان ؟ لقد سقطت الأقنعة،إن ضعف الرؤية التحليلية الراهنة لدى قادة هذه الأحزاب يعني مزيدا من الهزيمة والفشل لها،ولهذ فإن عليهم تقديم رؤية جديدة وتجسيد إنتمائهم لشعوبهم – إن كان لديهم إنتماء – على أسس وقواعد جديدة،فهل سوف يأتي اليوم الذي ينتمي فيه العرب بأحزابهم وتوجهاتهم إلى قضايا الأمة بدلا من إنتمائهم الضيق إلى هذا الإطار أو ذاك الحاكم ؟ وفي كل الأحوال ستبقى الجماهير مثل البحر تلفظ الميت ولا يعيش فيها إلا الحي مهما طال الزمن، لأنها حركة التاريخ.
وأخيرا فإنه لاشك أن إطلاق حرية تكوين الأحزاب سيظل أحد
أهم العوامل المهيئة لبناء مؤسسات الدولة السياسية على نهج ديموقراطي وهي البداية
لكل إصلاح سياسي كما ويبقى التأكيد على أن الصراع بين الأحزاب السياسية هو لب
الأنظمة الديموقراطية فهو صراع نبيل يهدف لتطوير المجتمع وتقدمه وخدمة الشعوب ونحن
في حاجة إلى من يلقى حجراً في حياتنا الحزبية الآسنة فضلا عن تعميق الإيمان بأهمية
وجود تعددية حزبية تعمل بشفافية و تنافس مشروع لا يسمح بالإتجار بحقوق المواطنيين
واللعب الكاذب على مشاعرهم من خلال مساوامات رخيصة.