التنشئة
السياسية وعلاقتها بالثقافة السياسية
التنشئة السياسية
لقد جاءت أول دراسة حول هذا الموضوع على يد هربرت هايمان،الذي جاء إهتمامه بالتنشئة السياسية في ضوء درساته المتعلقة بالسلوك السياسي،وقد
عرّف التنشئة السياسية بأنها تعلم الفرد لأنماط سلوكية وإجتماعية تساعده على أن
يتعايش مع الأعضاء الآخرين في المجتمع،وذلك عن طريق مختلف مؤسسات المجتمع،مما
يساعد هذا الفرد على أن يتعايش سلوكيا مع هذا المجتمع،ومن ثم جاء تعريف ألموند
بويل للتنشئة السياسية على أنها إكتساب المواطن للإتجاهات والقيم المتوقعة منه،أي
أنها عملية إستقرار الثقافة السياسية ومحصلتها النهائية هي مجموعة من الإتجاهات
والمعارف والقيم والمستويات والمشاعر نحو النظام السياسي وأدواره المختلفة،أما روبرت
ليفين فقد عرفها بإكتساب الأفراد لإستعدادات سلوكية تتفق وإستمرارية قيام الجماعات
والنظم السياسية بأداء الوظائف الضرورية للحفاظ على وجود الجماعات والنظم.
وعرف كينت لانغتون التنشئة السياسية بأنها تلك الطريقة
التي ينقل بها المجتمع ثقافته السياسية من جيل إلى آخر أو تلك العملية التي يتعلم
الفرد من خلالها المواقف الإتجاهية والأنماط السلوكية الوثيقة الصلة بالحياة
السياسية،فيما عرفها كل من جرين شتاين وسيدني في مؤلف لهما حول التوجيه السياسي
والثقافة السياسية عند الشباب الفرنسيين،بأنها التلقين الرسمي وغير الرسمي المخطط وغير المخطط للمعارف والقيم والسلوكيات السياسية والخصائص الشخصية ذات الدلالة
السياسية،وذلك في كل مرحلة من مراحل الحياة وعن طريق المؤسسات المختلفة في
المجتمع.
وكما نلاحظ أن تعدد وتنوع تعريفات التنشئة السياسية يعكس
أبعادا أيديولوجية وثقافية لدى المعرفين ويعبر عن تنوع أشكال التنشئة عبر
المجتمعات،فإعتبار التنشئة تعليما وتلقينا فإنه يتضمن معنى الجبر والإكراه،أما
إعتبار التنشئة إكتسابا فهو يتضمن معنى الحرية في الإختيار (مع أنه يتضمن تلقينا
إجباريا ولكنه لا ينفي أشكال أخرى من إكتساب الثقافة السياسية)،وقد أشار دور كهايم
إلى الجانب القسري في التنشئة،حيث إعتبر أن التنشئة السياسية هي عملية سلطوية
تمكن المجتمع من الإستمرارية وتقوية التجانس،وذلك بنقل القواعد التي تحكم المجتمع
إلى الفرد.
كما تتباين تعريفات التنشئة السياسية حسب الوظيفة التي
تؤديها للنسق السياسي،فالبعض يعرفها بالشكل الذي تصبح فيه مجرد أدة للحفاظ على
النسق السياسي القائم،وذلك بتلقين وتعليم الفرد التوجهات والقيم السياسية النابعة
من الثقافة السياسية السائدة في المجتمع والداعمة لنسقه السياسي،أما البعض الآخر
يعطي التنشئة تعريفا محايدا بحيث تصبح أدة في خدمة التنمية السياسية المفتوحة على
كل التوجهات والإحتمالات.
ولكن تعريف التنشئة بأنها تلقين الأفراد قيم وثقافة
المجتمع السياسية،قد يتضمن حكما ويعتبر هذا توجه محافظ بل ومتناقضا مع منطق
التطور والتغير،حيث أنه في الواقع لا توجد تنشئة سياسية تعمل على إعادة إنتاج
الثقافة السياسية دون تغيير أو تبديل،كما ولا يوجد جيل يقبل ثقافيا وسياسيا أن تكون
ثقافته نسخة طبق الأصل للثقافة السياسية للأجيال السابقة،وخصوصا في عصر معلوماتية
الثقافة الذي نعيشه الآن.
كما أن هناك علاقة إنسجام بين التنشئتين الإجتماعية
والسياسية وإندماج،وخصوصا في المجتمعات المستقرة،حيث يكون النظام السياسي مرتبطا
بالنسق الإجتماعي ككل،ومنبثقا منه ومتجها إليه،ومن هنا فإن الخصائص العامة للتنشئة
الإجتماعية متضمنة في التنشئة السياسية وهي:
1-الخاصية الأولى : إن التنشئة السياسية تعمل على أن يكتسب الإنسان
الثقافة السياسية لمجتمعه،وذلك يعني إكتساب غالبية قيم ورموز وتوجهات الحياة
السياسية العامة السائدة في بلده،وعملية الإكتساب هذه هي عملية متواصلة تدريجية
تبدأ منذ الطفولة وحتى الشيخوخة.
2-الخاصية الثانية : وهي تكامل الثقافة السياسية في الشخصية،بحيث يتحدد
السلوك السياسي للفرد إنطلاقا من الثقافة السياسية لمجتمعه،فمثلا التنشئة السياسية
في المجتمع الديمقراطي،يفترض بها أن تؤدي إلى خلق مواطن يؤمن بحرية الرأي
والعقيدة وبالتعددية السياسية أي خلق مواطن ديمقراطي.
3-الخاصية الثالثة : وهي أن تمكن التنشئة السياسية الفرد من التكيف مع النسق
السياسي،بحيث أن يشعر الفرد بإنتماء حقيقي للنسق السياسي كمشارك أو مؤيد أو حتى
كمعارض،ولكن كل ذلك ضمن ثوابت النسق،بحيث لا يشعر بغربة سياسية تجاه الثقافة
السياسية السائدة في مجتمعه،وبهذا فإن التنشئة السياسية الناجحة تكسب الفرد حمولة
ثقافية وفكرية وممارسات تكون هي المحدد الضروري لتصرفاته وأفعاله وردود هذه
الأفعال في مجال العمل السياسي فيما يتعلق بالمشاركة أو اللامبالة السياسية،أو بالتأييد
أو المعارضة للنظام السياسي القائم.
التنشئة السياسية والثقافة السياسية
ترتبط الثقافة بالتنشئة السياسية إرتباطا عضويا،حيث إن
الثقافة هي المحيط العام الذي تتفاعل فيه التنشئة السياسية وتستمد منها مضمونها
الإجتماعي والسياسي،فالثقافة عموما هي مجموعة العناصر من قوانين وعادات وتقاليد
وسياسة وغيرها لها علاقة بطريقة التفكير والشعور والسلوك،حيث تكتسبها الجماعة
وتتعلمها وتشارك فيها،وهي ما تعطي الأشخاص قيمتهم وشخصيتهم المتميزة،أما الثقافة
السياسية فهي جزء من الثقافة بمفهومها العام،حيث أنها طرق التفكير والسلوك
السياسي الخاص بجماعة ما،وبذلك فإنها تكتسب نفس خصائص الثقافة ولكن مطبقة على
المستوى السياسي،وتتمثل هذه الخصائص في: 1-طرق التفكير والشعور والسلوك. 2-صياغة
ما سبق من طرق في النظم القانونية والشعائر والطقوس الخاصة بالجماعة وكذلك قواعد
السلوك والمعارف والعلوم والدين وغيرها. 3-التشارك في طرق التفكير والشعور والسلوك
داخل الجماعة الواحدة مع إمكانية التخصص أكثر مما يشكل ثقافات فرعية. 4-الثقافة بالإكتساب عن طريق التعليم والتلقين والمعايشة وليس بالوراثة.
إن الثقافة السياسية هي ثقافة فرعية تتأثر بالثقافة
الأشمل،وهذه العلاقة بين الثقافة السياسية والثقافة العامة تتماشى مع علم الإجتماع
السياسي الذي يحيل السياسة إلى موائلها الإجتماعية بما فيها الثقافة،وقد كانت
الماركسية أول من لفت الإنتباه إلى علاقة الأفكار والعواطف بالمواقف السياسية،كما وكان الأمر كذلك عند ماكس فيبر الذي ربط النظام الرأسمالي الإقتصادي والسياسي
بالعقيدة البروتستانتية.
ولقد أعطيت الثقافة السياسية عدة تعريفات،بحيث إعتبرها روي
ماكريدس بأنها تمثل الأهداف المشتركة والقواعد العامة المقبولة،أما روبيرت هيل
فإعتبرها بأنها العامل الذي يفسر أنماط التعرض السياسي،ولكن أهم مقاربة علمية
للثقافة السياسية هي ما قام به ألموند وفيربا،حيث أعتبروا أن الثقافة لها ثلاثة أبعاد
هي : 1-الجانب المعرفي: ويتعلق بالمعارف العامة حول النظام السياسي. 2-الجانب
العاطفي: ويتعلق بالولاء الشخصي للزعماء والمؤسسات السياسية. 3-الجانب التقييمي: وهو
يتضمن الأحكام القيمية حول الشأن السياسي،ومن هنا فقد تم تقسيم الثقافه السياسية
إلى ثلاث أنماط هي: 1-الثقافة السياسية الرعوية: وهي التي ترتبط ببنية تقليدية غير
مركزية. 2-ثقافة الخضوع: وتتعلق ببنية
سلطوية ممركزة. 3-ثقافة المشاركة: وتتعلق ببنية ديمقراطية،ومنها فإن كل نمط مما
سبق يبلور لنفسه نوعا خاصا من التنشئة السياسية يدعم توجهاته ويحافظ على وجوده
ويعزز لدى الأفراد القيم والتوجهات التي تتوافق مع بنيته الثقافية ومرتكزاته
الأساسية التي يعتمد عليها،وأحيانا يمكن أن تتعايش الأنماط الثلاث في مجتمع واحد،مما يولد تنشأت سياسية وليس تنشئة سياسية واحدة .
وأخيرا فإن التطابق بين الثقافة السياسية والتنشئة
السياسية ضروري لتأمين إستقرار النظام،لأن كل ثقافة تسعى لأن تكون مقبولة من جميع
أفراد المجتمع (خلق توافق إجتماعي سياسي)،ومن هنا جاءت المطالبة بالإهتمام
بالتنشئة السياسية التي تسمح للأفراد بإستبطان وإكتساب معاييرها وقيمها والقبول
بلعب دور في مؤسستها،وهذه العملية التي تربط أفراد المجتمع بالثقافة السياسية هي
ما سماها موريس دفرجيه بالتثقيف بمعنى (التنشئة السياسية).
أما عن رأيّ الخاص فيما يخص التنشئة السياسية وعلاقتها
بالثقافة السياسية،فإنني أعتبرها علاقة إجبارية ولا غنى عنها،حيث إن التنشئة
السياسية لأي فرد كان،تبدأ من خلال العائلة التي يتربى فيها،وذلك من حيث التأثير
المباشر للأب والأم (والإخوة الأكبر إن وجدوا) وتوجهاتهم السياسية التي تتمثل في
الأفكار والأراء التي يحملونها،ومن ثم يأتي دور المدرسة في تعزيز ذلك،وفي بعض
الأحيان فإن الإضاءة على إتجاهات مختلفة قد تسهم في تغيير أو زيادة التشبت في الإتجاه
السياسي،ويكون تأثير كل من العائلة والمدرسة في التنشئة السياسية للأفراد مرتبط
إرتباطا مباشرا بالإطار العام الذي يتحدد بمدى إنتمائهم لطبقة إجتماعية معينة ومدى
إلتزامهم بالعادات والتقاليد السائدة،وكذلك مع الأخذ بعين الإعتبار تأثير الدين والإعلام
والخبرات المكتسبة للأفراد وغيرها من الأمور (المحيط العام)،وهذا كله يشكل الثقافة
العامة التي من خلالها تنبع الثقافة السياسية والتي تساهم في التنشئة السياسية
للفرد بشكل مباشر أو غير مباشر وبشكل إجباري (تلقيني) أو إختياري (عفوي)،ومن هنا
فإن كل إنسان يكون إبن لبيئته بطريقة أو بأخرى،ومنها
يتحدد إتجاهه السياسي من خلال تنشئته السياسية المرتبطة مباشرة بالثقافة السياسية
لبيئته (محيطه العام).