نشأة وتطور الظاهرة الحزبية في الشرق الأوسط
مثلما كان الحال في أمريكا اللاتنية وآسيا لم تشهد منطقة الشرق الأوسط مجالس تشريعية وتقاليد نيابية تسمح بالحديث عن أمول برلمانية حزبية مثل أوروبا،وقد كان التراث الثقافي الذي ساد هذه المنطقة هو التراث الإسلامي والذي لم يقدم برأي العديد من الباحثين في جانبه السياسي ما يربط فكرة الشورى بنظرية محددة للتمثيل النيابي أو حكم الأغلبية،حيث إنصب جوهر النظرية السياسية الإسلامية في العصور الوسطى على الصفات الواجب توافرها في شخص الحاكم والقواعد التي يجب أن تحكم سلوكه إستنادا إلى الشريعة الإسلامية (القرآن والسنة).
وفي ظل سيطرة الإمبراطورية العثمانية على منطقة الشرق الأوسط تدعمت السلطة المطلقة للسلاطين العثمانيين والتي لم تكن تتحدها أي مراجعات أو توازنات مؤسسية،ثم جاءت الفترة بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتي تمثلت بوجود الحكم الإستعماري الأوروبي في المنطقة سواء في شكل إحتلال عسكري مباشر أو في شكل حماية أو إنتداب،حيث أعاق هذا الإستعمار فرص النمو العضوي للمؤسسات النيابية في بلدان هذه المنطقة،فقد كان الإحتلال البريطاني لمصر عام 1882 سببا مباشرا في عرقلة التطور الدستوري والنيابي فيها،كما كان صدور القانون النظامي في مايو 1883 بمثابة نكسة للتطورات التي تحققت من قبله،فيما إتفقت كل من بريطانيا وروسيا على تقسيم إيران إلى مناطق نفوذ في عام 1907 بعد أن كانت إيران قد تبنت دستورا نيابيا،بينما أقام الفرنسيون إنتدابهم في سوريا عام 1920 بعد ضرب دمشق بالقنابل في أعقاب إعلان الجمعية الوطنية هناك عن إنشاء حكم دستوري مستقل في سوريا.
وعلى كل الأحوال فإن الحزب السياسي كتنظيم سياسي طوعي كان بمثابة إبتداع جديد في منطقة لم تعرف من قبل سوى التجمعات القائمة على القرابة أو الدين أو المصالح الإقتصادية أو العلاقات الشخصية،إلا أن بلدان الشرق الأوسط عدا دول الخليج العربي شهدت نشأة الظاهرة الحزبية أساسا كتعبير عن المعارضة أو التحريض ضد الحكم المطلق الأجنبي أو المحلي أكثر منها تعبيرا عن تكتل تصويتي في جمعية تشريعية أو دستورية،ولذلك فغالبا ما كانت هذه الأحزاب مهتمة بالوصول إلى السلطة أو توجيه السياسات داخل إطار النظام السياسي أقل من إهتمامها بتأكيد الهوية القومية أو إقامة نظم جديدة،إلا أن تركيا شكلت إستثناءا على ذلك حيث أنها البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي أصبحت فيه الأحزاب السياسية منذ وقت مبكر هي الأداة الرئيسية للتنافس حول السلطة،وقد إتخذت الأحزاب فيها شكلها منذ أكثر من قرن بحيث أصبحت سمة مركزية ومسيطرة للحياة السياسية هناك منذ عام 1908 مما جعلها تقدم أخصب مادة لإستجلاء آثار المتغيرات التاريخية والإجتماعية في الشرق الأوسط على التطور الحزبي،وعلى عكس أغلب الدول المتخلفة لم تفقد تركيا إستقلالها على الإطلاق حيث كانت الجمهورية التركية التي أنشئت عام 1923 وريثة سبع قرون من التقاليد الحكومية العثمانية،ولذلك أبدى الأتراك تقديرا للمسؤولية الحكومية والمهارة التنظيمية ولحقائق السلطة والقوة السياسية.
أما من وجهة نظر مفاهيم التنمية السياسية،فقد سارت تركيا في سلسلة من المراحل المنتظمة والمتداخلة،أولها هو إعادة بناء السلطة السياسية المركزية وتشكيل هيكل فعال للخدمة العامة،أما ثانيها فهو تشكيل الهوية الإقليمية للدولة وظهور إحساس بالتضامن القومي في داخل حدود مقبولة،في حين أن ثالثها هو الزيادة في مشاركة المواطنين في العملية السياسية،وفي هذا السياق لعبت الأحزاب السياسية دورا أساسيا فيما يتعلق بتوسيع نطاق المشاركة السياسية خاصة وقد كانت البدايات الجنينية للأحزاب المعاصرة (العثمانيين الجدد وجمعية الإتحاد والترقي) عبارة عن تجمعات صغيرة في داخل النخبة البيروقراطية-العسكرية والتي بدأت في إسطنبول ثم أبعدت إلى المنفى ثم عادت لتنتشر في عدد من المدن الواقعة في المناطق المتقدمة ثقافيا من الإمبراطورية العثمانية مثل مقدونيا وسوريا،ولكن وبعد عام 1908 أصبح التنظيم الحزبي علنيا ورسميا ومنتشرا إلى أن شمل قطاعا واسعا من الطبقة المتعلمة (الضباط والموظفين المدنيين والمحامين والأطباء والصحفيين) سواءا في العاصمة أو في المراكز الإقليمية،أما في عام 1920 فقد بدأ التنظيم الحزبي يتغلغل في المدن الصغرى من خلال المعلمين والمسؤولين الإداريين وبعض رجال الدين الذين شكلوا حركة الدفاع عن الحقوق،وفي ظل نظام الحزب الواحد (1923-1945) تدّعم الوضع المسيطر لنخبة الحكومة المركزية المكونة من (ضباط الجيش والموظفين المدنيين)،في حين أنه بعد 1945 فإن المحامين ورجال الأعمال وكبار ملاك الأراضي ثم قادة النقابات فيما بعد وجدوا طريقهم إلى النخبة،كما أضحى الفلاحون والعمال الصناعيون مشاركون نشطون في الحياة السياسية،حيث كانت تركيا قد بدأت التحول إلى التعدد الحزبي خصوصا تحت ضغظ الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
إلا أن بقية بلدان الشرق الأوسط واجهت مشاكل أكثر صعوبة مما حدث في تركيا وهذا إنعكس على ظروف النشئة الحزبية فيها،ففي حين ولدت الجمهورية التركية وورأها مئات السنين من التقاليد الحكومية وحافظت على إستقلالها،إلا أن البلاد العربية إفتقدت وبدرجات متفاوتة مثل هذا التراث الحكومي كما أنها فقدت إستقلالها في ظل السيطرة العثمانية ثم الأوروبية،ومثلما حكم المحتلون هذه البلاد بالقوة والتهديد فإنهم لم ينسحبوا منها إلا تحت الضغوط والتهديد وهي ضغوط الحرب العالمية الأولى ثم ضغوط الحرب العالمية الثانية ثم ضغوط حركات التحرر الوطني بما لجأت إليه من عنف وحروب،وقد ساعد هذا اللجوء للقوة كأداة رئيسية في السياسات الداخلية على أن أصبحت الجيوش في البلاد العربية هي القوة الرئيسية على المسرح السياسي،كما أنه وفي حين إمتلكت تركيا موارد متوازنة زراعية-معدنية فإن معظم البلاد العربية واجهت مشاكل إقتصادية محبطة،فجهود التصنيع التي بدأت في مصر منذ ما يزيد عن قرن حدّ منها الإفتقار إلى الموارد وضيق مساحة الرقعة الزراعية والتزايد السريع للسكان،أما البلاد النفطية فإن معظمها نشأ في مناطق قاحلة تفتقد إلى الموارد الزراعية كما تفتقد أيضا إلى التنظيم الإجتماعي اللازم للتنمية الإقتصادية،ولم تقترن الموارد البترولية بإمكانات التنمية الأخرى إلا في إيران والعراق والجزائر.
كما أن سعي البلاد العربية إلى بلورة هوية قومية واحدة تتجاوز الكيانات الوطنية القائمة إستنفذ كما كبيرا من الطاقة السياسية لها في فترات مختلفة من تاريخها،بالإضافة إلى سوء توزيع الموارد الإقتصادية والبشرية،حيث كانت أكثر البلاد تقدما تحوز أقل الإمكانات الإقتصادية وأكثر المناطق بدائية تمتلك أكبر الثروات النفطية،كما وقد ظلت مشكلة الوحدة قائمة بل ومتفاقة وبلا حل،وفي داخل هذا السياق التاريخي والإجتماعي فإن التطور الحزبي في أغلب البلاد العربية وإيران لم يتخلف عن تركيا فقط ولكنه عرقل وتحول إلى مؤامرات وعنف،إلا أنه وبعد إنشاء عدد من الجمعيات السرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،بدأت أحزاب الكوادر الأولى الهامة في الظهور في الشرق الأوسط فقط في العقد الأول من القرن العشرين،فتوحدت جمعيات الأتراك الشباب عام 1908 وإنشاء الحزب الوطني في مصر على يد مصطفى كامل وبدأ التنظيم السياسي بين الشباب المثقفين في سوريا في العقد الثاني من القرن العشرين،كما كان حزب الوفد في مصر والذي أنشأ في عام 1924 هو أول حزب جماهيري في الشرق الأوسط،أما في المغرب فقد نشأت الحركات القومية الجامعة على غرار البلاد المستعمرة الأخرى،بينما في بعض البلدان الأخرى مثل السودان ولبنان كانت التجمعات الحزبية مجرد إطار سطحي يعكس إنقسامات دينية وطائفية عميقة.
كما شاع في بلدان الشرق الأوسط نمط من الأحزاب لم يزد عن كونه جماعات من داخل النخبة المسيطرة يربطه الولاء لقائد محدد،ويكفي مرسوم حكومي للقضاء عليه مثل بعض الأحزاب التي ظهرت في مصر أثناء الحكم الملكي وفي العراق حتى عام 1958 وفي إيران قبل ظهور الجبهة الوطنية في عام 1952 ،على أن الجبهة الوطنية في إيران وكذلك حزب البعث في بلاد الهلال الخصيب ولفترة معينة كانا نمطا مختلفا من الأحزاب يعد بإحتمالات واسعة للتأييد الجماهيري والبرامج الوضحة إلى أن قمعت الجبهة الوطنية في عام 1953،أما حزب البعث فقد إستمر في توسيع شبكته التنظيمية من سوريا إلى العراق والأردن وإنغمس في قضية الوحدة العربية ثم سعى بعد ذلك إلى السلطة في داخل تلك البلاد.